والجواب أنه لَمْ يُرِد أنَّها نبوة باقية، وإنما أراد أنَّها لمّا أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب، لا ينبغي أن يُتَكَلَّم فيها بغير علم.
وقال ابن بطال: كون الرؤيا جزءًا من أجزاء النبوة، مما يُستعظم، ولو كانت جزءًا من ألف جزء، فيمكن أن يقال: إن لفظ النبوة مأخوذ من الإنباء، وهو الإعلام لغةً، فعلى هذا فالمعنى أن الرؤيا خبرٌ صادقٌ من الله، لا كَذِب فيه، كما أن معنى النبوة نبأ صادقٌ من الله، لا يجوز عليه الكذب، فشابهت الرؤيا النبوة في صِدْق الخبر.
وقال المازريّ: يَحْتَمِل أن يراد بالنبوة في هذا الحديث: الخبر بالغيب لا غير، وإن كان يَتْبَع ذاك إنذار أو تبشير، فالخبر بالغيب أحد ثمرات النبوة، وهو غير مقصود لذاته؛ لأنه يصحّ أن يُبعث نبي يقرر الشرع، ويبيّن الإحكام، وإن لَمْ يُخبِر في طول عمره بغيب، ولا يكون ذلك قادحًا في نبوته، ولا مبطلًا للمقصود منها، والخبر بالغيب من النبيّ لا يكون إلَّا صدقًا، ولا يقع إلَّا حقًّا، وأما خصوص العدد فهو مما أَطْلَعَ الله عليه نبيّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-؛ لأنه يَعلم من حقائق النبوة ما لا يعلمه غيره، قال: وقد سبق بهذا الجواب جماعة، لكنهم لم يكشفوه، ولم يحقّقوه.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: أجزاء النبوة لا يَعلم حقيقتها إلَّا مَلَك، أو نبيّ، وإنما القَدْر الذي أراده النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن يبيّن أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة في الجملة؛ لأنَّ فيها اطِّلاعًا على الغيب من وجه ما، وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة.
وقال المازريّ: لا يلزم العالم أن يعرف كلّ شيء جملةً وتفصيلًا، فقد جعل الله للعالم حدًّا يقف عنده، فمنه ما يَعلم المراد به جملةً وتفصيلًا، ومنه ما يعلمه جملةً لا تفصيلًا، وهذا من هذا القبيل.
قال الجامع عفا الله عنه: ما أحسن ما قاله ابن العربيّ، والمازريّ -رحمهما الله تعالى- في هذا، فمنه يتبيّن لنا أن قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "جزء من أجزاء النبوّة" حقٌ نؤمن به، وأن الله تعالى يُكرم العبد المؤمن بهذا الجزء من النبوّة كما أكرم الأنبياء بكامل النبوّة، وأما تفاصيل ذلك، ومعرفة نسبته، فالعلم إلى الله تعالي، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.