قال: وقد تكلم بعضهم على الرواية المشهورة وأبدى لها مناسبةً، فنقل ابن بطال عن أبي سعيد السفاقسيّ أن بعض أهل العلم ذكر أن الله أوحى إلى نبيّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في المنام ستة أشهر، ثم أوحى إليه بعد ذلك في اليقظة بقية مدة حياته، ونِسْبتها من الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءًا؛ لأنه عاش بعد النبوة ثلاثًا وعشرين سنةً على الصحيح، قال ابن بطال: هذا التأويل يَفْسد من وجهين: أحدهما: أنه قد اختُلِف في قدر المدة التي بعد بعثة النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إلى موته، والثاني: أنه يبقى حديث السبعين جزءًا بغير معنى.
قال الحافظ: ويضاف إليه بقية الأعداد الواقعة، وقد سبقه الخطابيّ إلى إنكار هذه المناسبة، فقال: كان بعض أهل العلم يقول في تأويل هذا العدد قولًا لا يكاد يتحقّق، وذلك أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أقام بعد الوحي ثلاثًا وعشرين سنةً، وكان يوحى إليه في منامة ستة أشهر، وهي نصف سنة، فهي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، قال الخطابيّ: وهذا وإن كان وجهًا تَحتمله قسمة الحساب والعدد، فأول ما يجب على من قاله أن يُثبت بما ادعاه خبرًا، ولم يُسمع فيه أثر، ولا ذَكَر مدعيه في ذلك خبرًا، فكأنه قاله على سبيل الظنّ، والظنّ لا يغني من الحق شيئًا، ولئن كانت هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة، على ما ذهب إليه، فليلحق بها سائر الأوقات التي كان يوحى إليه فيها في منامه في طول المدة، كما ثبت ذلك عنه في أحاديث كثيرة؛ كليلة القدر، والرؤيا في أُحُد، وفي دخول مكة، فإنه يتلفق من ذلك مدة أخري، وتزاد في الحساب، فتبطل القسمة التي ذكرها، قال: فدلّ ذلك على ضَعْف ما تأوله المذكور، وليس كلُّ ما خفي علينا عِلْمه لا يلزمنا حجته؛ كأعداد الركعات، وأيام الصيام، ورمي الجمار، فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها، ولم يقدح ذلك في موجب اعتقادنا للزومها، وهو كقوله في حديث آخر:"الهدي الصالح، والسَّمْت الصالح، جزء من خمسة وعشرين (١) جزءًا من النبوة"، فإن تفصيل هذا العدد وحصر النبوة متعذر، وإنما فيه أن هاتين الخصلتين من جملة هدي الأنبياء، وسَمْتهم، فكذلك معنى حديث الباب المراد
(١) تقدّم أنه صحيح بلفظ: "من أربعة وعشرين جزءًا من النبوّة"، فتنبّه.