ينطق إلَّا بحقيقة الحقّ، وهذا كقوله:"الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة"، فإنه تقديرُ تحقيقٍ، لكن ليس في قوة غيره أن يعرف علة تلك النسبة إلَّا بتخمين؛ لأنَّ النبوة عبارة عما يختص به النبيّ، ويفارق به غيره، وهو يختص بأنواع من الخواصّ، منها أنه يعرف حقائق الأمور المتعلقة بالله، وصفاته، وملائكته، والدار الآخرة، لا كما يَعلمه غيره، بل عنده من كثرة المعلومات، وزيادة اليقين والتحقيق، ما ليس عند غيره، وله صفة تتم له بها الأفعال الخارقة للعادات؛ كالصفة التي بها تتم لغيره الحركات الاختياربة، وله صفة يبصر بها الملائكة، ويشاهد بها الملكوت؛ كالصفة التي يفارق بها البصير الأعمي، وله صفة بها يُدرِك ما سيكون في الغيب، ويطالع بها ما في اللوح المحفوظ؛ كالصفة التي يفارق بها الذكيّ البليد، فهذه صفات كمالات ثابتة للنبيّ، يمكن انقسام كلّ واحدة منها إلى أقسام، بحيث يمكننا أن نقسمها إلى أربعين، وإلى خمسين، وإلى أكثر، وكذا يمكننا أن نقسمها إلى ستة وأربعين جزءًا، بحيث تقع الرؤيا الصحيحة جزءًا من جملتها، لكن لا يرجع إلَّا إلى ظنّ وتخمين، لا أنه الذي أراده النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- حقيقةً. انتهى ملخصًا.
قال الحافظ: وأظنه أشار إلى كلام الْحَلِيميّ، فإنه مع تكلفه ليس على يقين أن الذي ذكره هو المراد، والله أعلم.
وقال ابن الجوزيّ (١): لمّا كانت النبوة تتضمن اطّلاعًا على أمور يظهر تحقيقها فيما بعدُ وقع تشبيه رؤيا المؤمن بها، وقيل: إن جماعة من الأنبياء كانت نبوّتهم وحيًا في المنام فقط، وأكثرهم ابتدئ بالوحي في المنام، ثم رَقُوا إلى الوحي في اليقظة، فهذا بيان مناسبة تشبيه المنام الصادق بالنبوة، وأما خصوص العدد المذكور، فتكلم فيه جماعة، فذَكَرَ المناسبة الأُولي، وهي أن مدة وحي المنام إلى نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كانت ستة أشهر، وقد تقدم ما فيه، ثم ذَكَر أن الأحاديث اختلفت في العدد المذكور، قال: فعلى هذا تكون رؤيا المؤمن مختلفة، أعلاها ستة وأربعون، وأدناها سبعون، ثم ذكر المناسبة التي ذكرها الطبريّ.
وذكر الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة وجهًا آخر، ملخّصه: أن النبوة لها