للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وثانيًا على الإخبار بالنفي المحض، وثالثًا على الاستفهام، ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في "مغازيه" عن عروة، أنه قال: "كيف أقرأ؟ "، وفي رواية عُبيد بن عُمير عند ابن إسحاق: "ماذا أقرأ؟ "، وفي مُرسل الزهريّ في "دلائل البيهقيّ": "كيف أقرأ؟ "، وكلُّ ذلك يؤيد أنها استفهامية، والله أعلم (١).

وقال الطيبيّ رحمهُ اللهُ: [فإن قلت]: قد تقرّر في علم المعاني أن إيلاء الضمير حرف النفي يفيد الاختصاص والحصر، وهو يستدعي أن يكون حكم المخاطب مشوبًا بصواب وخطأ، فيردّ خطؤه إلى الصواب، فأين هذا من جبريل؟.

[قلت]: إنه - صلى الله عليه وسلم - لَمّا سمع من جبريل: "اقرأ" تصوّر منه - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتقد أن حكمه - صلى الله عليه وسلم - ليس كحكم سائر الناس في أن حصول القراءة، والتمكّن منها إنما هو بطريق التعلّم، ومدارسة الكتب، فلهذا ردّه بقوله: "ما أنا بقارئ"، أي: حكمي كحكم سائر الناس من أن حصول القراءة إنما هو بالتعلّم، وعدمه بعدمه، فلذلك أخذه، فغطّه مررًا؛ ليُخرجه من حكم سائر الناس، ويستفرغ منه البشريّة، ويُفرغ فيه صفات الملكيّة، فحيئذ يعلم معنى "اقرأ"، ويخاطب بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١)} [العلق: ١] إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: ٥]، ففي المقروء أيضًا إشارة إلى ردّ ما تصوّره - صلى الله عليه وسلم - من أن القرآن إنما يتيسّر بطريق التعليم فقط، بل إنها كما تحصل من التعليم بواسطة العلم، فقد تحصل بتعليم الله بلا واسطة، فقوله: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: ٤] إشارة إلى العلم التعليميّ، وقوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)} [العلق: ٥] إلى العلم اللدنيّ، ومِصْداقه قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥)} [النجم: ٤ - ٥]. انتهى كلام الطيبيّ رحمهُ اللهُ (٢).

(قَالَ) - صلى الله عليه وسلم - ("فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي) بالغين المعجمة، والطاء المهملة، والغطُّ: حَبْسُ النَّفَس، ومنه غَطّه في الماء، فمعناه: عَصَرَني، وضَمَّني، يقال: غَطّه، وغَتَّه، وضَغَطه، وعَصَرَه، وخَنَقه، وغَمَزه كله بمعنى واحد.

وفي رواية الطبري: "فَغَتَّنِي" بتاء مثناة من فوقُ، وهو بمعنى غطّني،


(١) "الفتح" ١/ ٣٢ - ٣٣.
(٢) "الكاشف عن حقائق السنن" ١٢/ ٣٧١٦ - ٣٧١٧.