للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

منه أن من رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من الأضغاث، ومن المعلوم أنه يُرى في النوم على حالة تخالف حالته في الدنيا، من الأحوال اللائقة به، وتقع تلك الرؤيا حقًّا، كما لو رؤي ملأ دارًا بجسمه مثلًا، فإنه يدلّ على امتلاء تلك الدار بالخير، ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشيء مما كان عليه، أو ينسب إليه لَعَارض عموم قوله: "فإن الشيطان لا يتمثل بي"، فالأَولى أن تُنزّه رؤياه، وكذا رؤيا شيء منه، أو مما يُنسب إليه عن ذلك، فهو أبلغ في الحرمة، وأليق بالعصمة، كما عُصم من الشيطان في يقظته.

قال: والصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة ليست باطلة، ولا أضغاثًا، بل هي حقّ في نفسها، ولو رؤي على غير صورته، فَتَصوّر تلك الصورة ليس من الشيطان، بل هو من قِبَل الله تعالى، وقال: وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب، وغيره، ويؤيده قوله: "فقد رأى الحقّ"؛ أي: رأى الحقّ الذي قُصد إعلام الرائي به، فإن كانت على ظاهرها، وإلا سَعَى في تأويلها، ولا يُهْمِل أمرها؛ لأنها إما بشرى بخير، أو إنذار من شرّ، إما ليُخِيف الرائي، وإما لينزجر عنه، وإما لينّبه على حكم يقع له في دينه، أو دنياه.

وقال ابن بطال (١): قوله: "فسيراني في اليقظة" يريد تصديق تلك الرؤيا في اليقظة، وصحتها، وخروجها على الحقّ، وليس المراد أنه يراه في الآخرة؛ لأنه سيراه يوم القيامة في اليقظة جميع أمته، من رآه في النوم، ومن لم يره منهم.

وقال ابن التين: المراد من آمن به في حياته، ولم يره؛ لكونه حينئذ غائبًا عنه، فيكون بهذا مبشّرًا لكل من آمن به، ولم يره أنه لا بدّ أن يراه في اليقظة قبل موته، قاله القزاز.

وقال المازريّ (٢): إن كان المحفوظ: "فكأنما رآني في اليقظة"، فمعناه ظاهر، وإن كان المحفوظ: "فسيراني في اليقظة" احْتَمَلَ أن يكون أراد أهل عصره، ممن يهاجر إليه، فإنه إذا رآه في المنام جُعِل ذلك علامةً على أنه يراه بعد ذلك في اليقظة، وأوحى الله بذلك إليه -صلى الله عليه وسلم-.


(١) "شرح البخاريّ" لابن بطّال ٩/ ٥٢٧.
(٢) "المعلم" ٣/ ١١٩.