وتعقّبه الطيبيّ رحمهُ اللهُ، فقال: لا شكّ أن جبريل في حالة الغطّ لم يكن على صورته الحقيقيّة التي تجلّى بها عند سدرة المنتهى، وعندما رآه مستويًا على الكرسيّ، فيكونُ استفراغ جهده بحسب الصورة التي تجلّى له وغطّه، وإذا صحّت الرواية اضمحلّ الاستبعاد. انتهى (١).
قال الحافظ بعد ذكر ما تقدّم: الترجيح هنا متعين؛ لاتحاد القصة، ورواية الرفع لا إشكال فيها، وهي التي ثبتت عن الأكثر، فتَرجَّحت، وإن كان للأخرى توجيه، وقد رجح البلقينيّ بأن فاعل "بَلَغَ" هو الغَطُّ، والتقدير: بلغ مني الغطُّ جهدَه؛ أي: غايته، فيَرْجِع الرفع والنصب إلى معنى واحد، وهو أولى.
قال البلقينيّ.: وكأنّ الذي حصل له عند تلقي الوحي من الجهد مقدمةٌ لما صار يحصل له من الكرب عند نزول القرآن، كما في حديث ابن عباس:"كان يعالج من التنزيل شدّةً"، وكذا في حديث عائشة، وعمر، ويعلى بن أمية، وغيرهم - رضي الله عنهم -، وهي حالة يؤخذ فيها عن حال الدنيا من غير موت، فهو مقام بَرْزَخيّ يحصل له عند تلقي الوحي، ولَمّا كان البرزخ العامّ ينكشف فيه للميِّت كثيرٌ من الأحوال خَصَّ الله تعالى نبيّه - صلى الله عليه وسلم - ببرزخ في الحياة يُلْقِي إليه فيه وحيه المشتمل على كثير من الأسرار، وقد يقع لكثير في الصلحاء عند الغيبة بالنوم أو غيره اطّلاعٌ على كثير من الأسرار، وذلك مُسْتَمَدٌّ من المقام النبويّ، ويشهد له حديث:"رؤيا المؤمن جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا من النبوة".
[تنبيه]: قال السهيليّ رحمهُ اللهُ: تأويل الغَطّات الثلاثة على ما في رواية ابن إسحاق أنها كانت في النوم أنه سيقع له ثلاث شدائد، يُبتلى بها، ثم يأتي الفرج، وكذلك كان، فإنه لَقِي ومن تبعه شدّةً أُولى بالشِّعبِ لَمّا حَصَرتهم قريش، وثانية لَمّا خرجوا، وتوعّدوهم بالقتل حتى فَرّوا إلى الحبشة، وثالثة لما هَمّوا بما همّوا به من المكر به، كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣٠)} [الأنفال: ٣٠]، فكانت له العاقبة في الشدائد الثلاثة.
وقال البلقينيّ: وهذه المناسبة حسنةٌ، ولا يتعين للنوم، بل تكون بطريق