ولا يُفهم من هذا أن الرحمة التي وَصَفَ الحقُ بها نفسه هي رقَّة وحُنُو، كما هي في حقِّنا؛ لأنَّ ذلك تغيُّر يوجب للمتصف به الحدوث، والله تعالى منزه، ومقدَّس عن ذلك، وعن نقيضه الذي هو القسوة، والغلظ؛ وإنما ذلك راجعٌ في حقِّنا إلى ثمرة تلك الرأفة، وفائدتها، وهي اللطف بالمبتلى، والضعيف، والإحسان إليه، وكشف ما هو فيه من البلاء، فإذا هي في حقه -سبحانه وتعالى- من صفات الفعل، لا من صفات الذات، وهذا كما تقدَّم في غضبه تعالى، ورضاه في غير موطن.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبي فيه صواب وخطأ، أما صوابه، فقوله: إن الرحمة التي وصف الله تعالى بها نفسه ليست كرحمتنا، فهذا حقّ، وأما الباطل فحمله الرحمة على الثمرة، وأنها ليست من صفات الذات، بل من صفات الفعل، فهذا تأويل لصفة الرحمة عن حقيقتها، والحقّ أنها صفة ثابتة لله -عز وجل-، كما أثبتها -سبحانه وتعالى- لنفسه في آيات كثيرة، وأثبتها له الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث كثيرة، فنعتقد أنها ثابتة على ما يليق بجلاله -سبحانه وتعالى-، ولا نشبّه، ولا نعطّل، ولا نكيّف، بل نقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى: ١١].
ثمّ رأيت لبعض المحقّقين تحقيقًا نفيسًا في المسألة، حيث قال: دلّت النصوص من الكتاب والسُّنَّة على أن الرحمة المضافة إلى الله تعالى رحمتان:
رحمة هي صفته، وصفاته غير مخلوقة، وإضافتها إلى الله هي من إضافة الصفة إلى الموصوف، كما قال تعالى عن نبيّ الله سليمان -عليه السلام-: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}[النمل: ١٩]، وقال تعالى:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}[الكهف: ٥٨]، وقال تعالى:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فهذان الاسمان متضمّنان صفة الرحمة، فاسمه الرحمن يدلّ على الرحمة الذاتيّة التي لم يزل، ولا يزال موصوفًا بها، واسمه الرحيم يدلّ على الرحمة الفعليّة التابعة لمشيئته -سبحانه وتعالى-، كما قال تعالى:{إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ}[الإسراء: ٥٤]، وقال:{وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ}[العنكبوت: ٢١].
وأهل السُّنَّة والجماعة يُثبتون الرحمة لله تعالى صفة قائمة به -سبحانه وتعالى-، والمعطّلة ومن تَبِعَهم يُنفون حقيقة الرحمة عن الله تعالى، ومنهم الأشاعرة، ويؤوّلونها بالإرادة، أو النعمة.