للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

من قِبَل المخلوقين واضح، وأما من قِبَل الله تعالى ففيه إشكال؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائزين، لكن إذا حَمَلناه على ما يُفضي إلى الإثم أمكن ذلك، بأن يخيّره بين أن يَفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلًا، وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف، فيختار الكفاف، وإن كانت السعة أسهل منه، والإثم على هذا أمر نسبيّ لا يراد منه معنى الخطيئة؛ لثبوت العصمة -صلى الله عليه وسلم-.

وقال ابن بطال: هذا التخيير ليس من الله؛ لأن الله لا يُخَيِّر رسوله بين أمرين: أحدهما إثم، إلا إن كان في الدِّين، وأحدهما يؤول إلى الإثم؛ كالغلوّ، فإنه مذموم، كما لو أوجب الإنسان على نفسه شيئًا شاقًّا من العبادة، فعجز عنه، ومن ثم نَهَى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابه عن الترهب.

وقال ابن التين: المراد: التخيير في أمر الدنيا، وأما أمر الآخرة فكلما صَعُب كان أعظم ثوابًا. قال الحافظ: كذا قال، وما أشار إليه ابن بطال أولى، وأولى منهما أن ذلك في أمور الدنيا؛ لأن بعض أمورها قد يُفضي إلى الإثم كثيرًا، والأقرب أن فاعل التخيير: الآدميّ، وهو ظاهر، وأمثلته كثيرة، ولا سيما إذا صدر من الكافر. انتهى (١).

وقال القرطبيّ -رحمه الله-: قول عائشة -رضي الله عنها-: "ما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما"؛ تعني: أنه كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خيَّره أحد في شيئين يجوز له فِعل كل واحد منهما، أو عُرضت عليه مصلحتان؛ مالَ للأيسر منهما، وترك الأثقل؛ أخذًا بالسُّهولة لنفسه، وتعليمًا لأمَّته، فإذا كان في أحد الشيئين إثم تَرَكه، وأخذ الآخر، وإن كان الأثقل.

وكونه -صلى الله عليه وسلم- سقط إلى الأرض لَمّا جَعَل إزاره على عنقه يدلّ على أن الله تعالى حفظه من صِغَره، وتولى تأديبه بنفسه، ولم يَكِله في شيء من ذلك لغيره، ولم يزل الله يفعل ذلك به حتى كَرِهَ له أحوال الجاهلية، وحماه عنها، حتى لم يَجْرِ عليه شيء منها، كلُّ ذلك لطفٌ به، وعطفٌ عليه، وجَمْع للمحاسن لديه. انتهى (٢).


(١) "الفتح" ١٥/ ٥٥٣، كتاب "الحدود" رقم (٦٧٨٦).
(٢) "المفهم" ٦/ ١١٨.