رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} الآية [البقرة: ١٨٥]، وفي معنى هذا الأخذ برُخَص الله تعالى، ورُخَص رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والأخذ برخص العلماء، ما لم يكن القول خطأ بيّنًا. انتهى (١).
٩ - (ومنها): ما قال القرطبيّ -رحمه اللهُ-: في الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصبر على جَهْل مَنْ جَهِل عليه، ويَحْتَمِل جفاءه، ويَصْفَح عمَّن آذاه في خاصة نفسه؛ كصَفْحه عمَّن قال: يا محمد اعْدِل، فإنَّ هذه قسمة ما أُرِيدَ بها وجه الله تعالى، وما عَدَلت منذ اليوم!، وكصَفْحه عن الذي جَبَذ رداءه عليه حتى شقَّه، وأثَّر في عنقه.
[فإنْ قيل]: فأذاه -صلى الله عليه وسلم- انتهاك حرمة من حُرَم الله تعالى، فكيف يترك الانتقام لله تعالى فيها؟ وقد قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[التوبة: ٦١].
[فالجواب]: أنه -صلى الله عليه وسلم- ترك الانتقام مِمَّن آذاه استئلافًا، وتَرْكًا لما ينفِّر عن الدخول في دينه، كما قال -صلى الله عليه وسلم- لَمّا طلب عمر -رضي الله عنه- قتل عبد الله بن أُبيّ المنافق لَمّا قال:{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} الآية [المنافقون: ٨]: "دَعْهُ لا يتحدّث الناسُ أن محمَّدًا يقتل أصحابه"، متّفقٌ عليه ..
وقد قال مالك: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعفو عمَّن شتمه؛ مشيرًا إلى ما ذكرنا.
وإذا تقرّر هذا فمراد عائشة -رضي الله عنها- بقولها:"إلا أن تُنتهك حرمة الله": الحرمة التي لا ترجع لحقّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ كحرمة الله، وحرمة محارمه، فإنَّه كان يقيم حدود الله على من انتهك شيئًا منها، ولا يعفو عنها، كما قال في حديث السَّارقة:"لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها"، متّفقٌ عليه.
قال القرطبيّ: لكن ينبغي أن يُفْهَم أن صَفْحه -صلى الله عليه وسلم- عمَّن آذاه كان مخصوصًا به، وبزمانه؛ لِمَا ذكرناه، وأما بعد ذلك فلا يُعفَى عنه بوجه.
قال القاضي عياض -رَحمه اللهُ-: أجمع العلماء على أن من سَبَّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كَفَرَ، واختلفوا: هل حُكْمه حُكْم المرتدّ يُستتاب؟ أو حُكم الزنديق لا يُستتاب؟