للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قال القرطبيّ: وفيما قاله القاضي -رحمه الله-، وحكاه نظر، بل الظاهر من مساق الحديث أن السَّدل إنما كان يفعله لأجل محبته استئلاف أهل الكتاب بموافقتهم، لكنه كان يوافقهم فيما لم يُشرع له فيه، فلما استمروا على عنادهم، ولم ينتفعوا بالموافقة، أحبَّ مخالفتهم أيضًا فيما لم يُشرع له، فصارت مخالفتهم محبوبة له، لا واجبة عليه، كما كانت موافقتهم.

وقوله: "فيما لم يؤمر"؛ يعني: فيما لم يُطْلب منه، والطلب يشمل الواجب والمندوب، كما قررناه في الأصول، وأما توهُّم النَّسخ في هذا، فلا يُلتفت إليه؛ لإمكان الجمع، كما قررناه، وهذا بعد تسليم أن محبة موافقتهم ومخالفتهم حكم شرعيّ، فإنَّه يَحْتَمِل أن يكون ذلك أمرًا مصلحيًّا، هذا مع إنه لو كان السَّدل منسوخًا بوجوب الفرق لصار الصحابة -رضي الله عنهم- إليه، أو بعضهم، وغاية ما روي عنهم أنه كان منهم من فرق، ومنهم من سدل، فلم يعب السَّادل على الفارق، ولا الفارق على السَّادل، وقد صحَّ عنه -رضي الله عنه- أنه كان له لِمَّةٌ، فإن انفرقت فرقها، وإلا تركها، وهذا يدلُّ على أن هذا كان غالب حاله؛ لأنَّ ذلك ذَكَره مع جملة أوصافه الدائمة، وحِليته التي كان موصوفًا معروفًا بها، فالصحيح: أن الفرق مستحبٌّ، لا واجب، وهذا الذي اختاره مالك، وهو قول جلّ أهل المذاهب. والله تعالى أعلم.

وقوله: "كان يحبُّ موافقة أهل الكتاب" قد قلنا: إن ذلك كان في أوَّل الأمر عند قدومه المدينة في الوقت الذي كان يستقبل قبلتهم، وإن ذلك كله كانت حكمته التأنيس لأهل الكتاب، حتى يُصْغُوا إلى ما جاء به، فيتبيّن لهم أنه الحقّ، والاستئلاف لهم ليدخلوا في الدين، فلما غلبت عليهم الشقوة، ولم ينفع معهم ذلك نَسَخ الله تعالى استقبال قبلتهم بالتوجه نحو الكعبة، وأمر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بمخالفتهم في غير شيء؛ كقوله: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم"، وذكر أبو عمر في "التمهيد" عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اخضبوا، وافرقوا، خالفوا اليهود"، قال: إسناده حسن، ورجاله كلهم ثقات؛ وكقوله في الحائض: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، حتى قالت اليهود: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه، فاستقر آخر أمره على مخالفتهم فيما لم يُحكم عليه فيه بحكم، فإذا ثبت هذا فلا حجَّة