للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

أي: من العذاب النازل عليهم عند غضبه -صلى الله عليه وسلم-. (قَالَ أَنَسٌ) -رضي الله عنه- (فَجعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا) كلمة المفاجأة؛ أي: ففاجأني (كُلُّ رَجُلٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ) "اللافّ": اسم فاعل من لفّ الشيءَ يلُفّه، من باب نصر: إذا ضمّه إليه، ووصله به، قال الكرمانيّ: "لافّ" بالرفع، والنصب، قال العينيّ: أما الرفع فعلى أنه خبر المبتدأ، وهو قوله: "كلُّ رجل"، وأما النصب فعلى أنه حال من "رجل"، وقوله: (يَبْكِي) على هذا هو خبر قوله: "فإذا كلُّ رجل"، وعلى الرفع يكون جملة حالية. انتهى (١).

[تنبيه]: قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: قوله: "فإذا كل إنسان لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي": هذه حالة العارفين بالله تعالى، الخائفين من سطوته وعقوبته، لا كما تفعله جُهَّال العوام، والمبتدعة الطَّغام من الزعيق والزفير، ومن النهيق الذي يشبه نهاق الحمير، فيقال لمن تعاطى ذلك، وزعم أن ذلك وَجْدٌ وخشوع: إنك لم تبلغ حالك أن تساوي حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا حال أصحابه -رضي الله عنهم- في المعرفة بالله تعالى، والخوف منه، والتعظيم لجلاله، ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله تعالى، والبكاء خوفًا من الله، والوقار حياءً من الله، وكذلك وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)} [الأنفال: ٢]، فصدَّر الله تعالى الكلام في هذه الآية بـ "إنما" الحاصرة لِمَا بعدها، المحقِّقة له، فكأنه قال: المؤمنون على التحقيق هم الذين تكون أحوالهم هكذا عند سماع ذكر الله، وتلاوة كتابه، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم، ولا على طريقتهم، وكذلك قال الله تعالى في الآية الأخرى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣)} [المائدة: ٨٣]، فهذا وصف حالهم، وحكاية مقالهم، فمن كان مُستنًّا فليستنّ، ومن تعاطى أحوال المجانين والمجون، فهو من أخسِّهم حالًا، والجنون فنون.

[فإن قيل]: فقد صحَّ عن جماعة من السلف أنهم صَرَخُوا عند سماع


(١) "عمدة القاري" ٢٢/ ٣١١.