عليها، ولمّا كان المصرَّح عن نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خبر ابن عباس حيث قال:"أمَّني جبريل عند البيت مرتين … "، فذكر الخبر، وقال في آخره:"هذا وقتك، ووقت الأنبياء قبلك"، كان في هذا الخبر البيان الواضح أن بعض شرائعنا قد تتفق ببعض شرائع من قبلنا من الأمم، ولمّا كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، أو الناظر إلى بيته بغير أمره من غير جُناح على فاعله، ولا حرج على مرتكبه؛ للأخبار الجمّة الواردة فيه التي أمليناها في غير موضع من كُتُبنا، كان جائزًا اتفاق هذه الشريعة بشريعة موسى بإسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحًا له، ولا حرج عليه في فعله، فلما رجع ملك الموت إلى ربه، وأخبره بما كان من موسى فيه، أمره ثانيًا بأمر آخر أمر اختبار وابتلاء، كما ذكرنا قبلُ؛ إذ قال الله له:"قل له: إن شئت، فضع يدك على متن ثور، فلك بكل ما غطت يدك، بكل شعرة سنة"، فلما عَلِم موسى كليم الله -صلى الله على نبينا وعليه- أنه ملك الموت، وأنه جاءه بالرسالة من عند الله، طابت نفسه بالموت، ولم يستمهل، وقال: فالآن، فلو كانت المرة الأولى عرفه موسى أنه ملك الموت، لاستعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه، وعِلمه به، ضِدَّ قول من زعم أن أصحاب الحديث حمالةُ الحطب، ورُعاة الليل، يجمعون ما لا ينتفعون به، ويروون ما لا يؤجرون عليه، ويقولون بما يبطله الإسلام؛ جهلًا منه لمعاني الأخبار، وترك التفقه في الآثار، معتمدًا منه على رأيه المنكوس، وقياسه المعكوس. انتهى كلام ابن حبّان -رَحِمَهُ اللهُ- (١)، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ-: لا يمتنع أن يأذن لموسى في هذه اللطمة امتحانًا للملطوم.
وقال غيره: إنما لَطَمه؛ لأنه جاء لِقَبْض روحه من قبل أن يُخبره؛ لِمَا ثبت أنه لَمْ يُقبض نبيّ حتى يُخيّر؛ فلهذا لمّا أخبره في المرّة الثانية أذعن.
قيل: وهذا أَولى الأقوال بالصواب. وفيه نَظَر؛ لأنه يعود أصل السؤال، فيقال: لِمَ أَقدمَ ملك الموت على قبض نبيّ الله، وأخلّ بالشرط؟ فيعود الجواب أن ذلك وقع امتحانًا.