بذلك أكثر أئمة التفسير. فكيف أَمَر عباده أولًا، ثم يجعل تركه استكبارًا منهم، ثم يُرغّبهم في الدعاء، ويخبرهم أنه قريب من الداعي، مجيب لدعوته بقوله:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [البقرة: ١٨٦]، ثم يقول معنونًا لِكَلمه الكريم بحرف يدلّ على الاستفهام الإنكاريّ، والتقريع والتوبيخ:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} الآية [النمل: ٦٢]، ثم يأمرهم بسؤاله من فضله بقوله:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} الآية [النساء: ٣٢]؟
[فإن قالوا]: إن هذا الدعاء الذي أمرنا الله به، وأرشدنا إليه، وجعل تركه استكبارًا، وتوعّد عليه بدخول النار مع الذّلّ، ورغّب عباده إلى دعائه، وعرّفهم أنه قريب، وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأنكر عليهم أن يعتقدوا أن غيره يجيب المضطرّ إذا دعاه، ويكشف ما تنزّل به من السوء، وأمرهم أن يسألوه من فضله، ويطلبوا ما عنده من الخيرات، كل ذلك لا فائدة فيه للعبد، وأنه لا ينال إلَّا ما قد جرى به القضاء، وسَبَق به العلم، فقد نسبوا إلى الربّ -عَزَّ وَجَلَّ- ما لا يجوز عليه، ولا يحلّ نسبته إليه، فإنه لا يأمر العبد إلَّا بما فيه فائدة يُعتدّ بها، ولا يرغّبه بما لا يحصل به الخير، ولا يرهّبه إلَّا عما يكون به عليه الضير، ولا يَعِده إلَّا ما هو حقّ يترتب عليه فائدة، فهو صادق الوعد، ولا يُخلف الميعاد، ولا يأمرهم بسؤاله فَضْله، إلَّا وهناك فائدة تحصل بالدعاء، ويكون لسببه الفضل عليهم، ورَفْع ما هم فيه من الضرّ، وكشف ما حلّ بهم من السوء، هذا معلوم لا يشك فيه إلَّا من لَمْ يعقل حُجَج الله، ولا يفهم كلامه، ولا يدري بخير ولا شرّ، ولا نفع ولا ضرّ، ومن بلغ به الجهل إلى هذه الغاية، فهو حقيق بأن لا يُخاطب، وقَمِين بأن لا يناظَر، فإن هذا المسكين المتخبّط في جهله، المتقلب في ضلالته قد وقع فيما هو أعظم خطرًا من هذا، وأكثر ضررًا منه.
وهكذا ما شرعه الله لعباده من الشرائع على لسان أنبيائه، وأنزل بها كتبه، يقال فيه مثل هذا، فإنه إذا كان ما قد حصل في سابق علمه -عَزَّ وَجَلَّ- كائنًا، سواء بعث الله إلى عباده رسله، وأنزل إليهم كتبه، أو لَمْ يفعل، كان ذلك عبثًا يتعالى الربّ -عَزَّ وَجَلَّ- عنه، ويُنزّه عن أن يُنسب إليه.
[فإن قالوا]: إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد سبق علمه بكلّ ذلك، ولكنه قيّده بقيود،