للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، ويتضمَّن هذا الكلام أن الحديث معارض لقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: ٢٥٣]، ولِمَا في معنى ذلك من الأحاديث، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وهذا لا يصح حتى تتحقق المعارضة حيث لا يمكن الجمع بوجه، وحتى يُعرف التاريخ، وكل ذلك غير صحيح على ما يأتي، فليس هذا القول بصحيح.

ومنهم من قال: إنما قال ذلك النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جهة التواضع، والأدب مع الأنبياء، وهذا فيه بُعدٌ؛ لأنَّ السبب الذي خرج عليه هذا النهي يقتضي خلاف ذلك، فإنَّه إنما قال ذلك ردعًا وزجرًا للذي فضَّل، ألا ترى أنه قد غَضِب عليه حتى احمّر وجهه، ونهى عن ذلك، فدلَّ على أنَّ التفضيل يحرم، ولو كان من باب الأدب والتواضع لَمَا صدر منه ذلك.

ومنهم من قال: إنما نهى عن الخوض في ذلك؛ لأنَّ ذلك ذريعة إلى الجدال في ذلك، فيؤدي إلى أن يُذكر منهم ما لا ينبغي أن يُذكر، ويقلّ احترامهم عند المماراة، وهذا كما نهي عنه من الجدال في القرآن والمماراة.

ومنهم من قال: مقتضى هذا النهي: إنما هو المنع من تفضيل معيَّن من الأنبياء على معيَّن، أو على ما يقصد به معيَّن، وإن كان اللفظ عامًا؛ لأنَّ ذلك قد يُفهم منه نقص في المفضول كما بيَّنَّاه، فيما تقدَّم.

قال القرطبيّ: ويدلّ على ذلك أنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث في مسلم: "لا تفضلوني على موسى -عَلَيْهِ السَّلَام-، وبدليل قوله: "ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متّى".

[فإنْ قيل]: فالحديث يدلّ على خلاف هذا، فإنَّ اليهوديّ فضّل موسى على البشر، والمسلم قال: والذي اصطفى محمدًا على البشر، وعند ذلك قال النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تفضلوا بين الأنبياء"، و"لا تخيروا بين الأنبياء"؛ فاقتضى ذلك المنع من التفضيل مطلقًا معيّنًا، وغير معيّن.

[فالجواب]: أن مراد اليهوديّ كان إذ ذاك أن يصرّح بأن موسى أفضل من محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لكنَّه لَمْ يَقْدِر على ذلك خوفًا على نفسه، إلا ترى أن المسلم فهم ذلك عنه، فأجابه بما يقتضي أن محمدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل من موسى -عَلَيْهِ السَّلَام-، غير أنه قابل لفظ اليهوديّ بمثله، وقد بيَّن ذلك غاية البيان قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تفضلوني على