رجلًا من أهل الجَنَّة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلي، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر، فبادر الطرفَ نباته، واستواؤه، واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يُشبعك شيء"، فقال الأعرابيّ: والله لا تجده إلَّا قرشيًّا، أو أنصاريًّا، فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انتهى (١).
فإذا كان الله -عَزَّ وَجَلَّ- وعد للمؤمنين أن لهم في الآخرة ما تشتهيه أنفسهم، وهم يدّعون؛ أي: يطلبون، وأخبر النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن هذا الرجل طلب أن يزرع في الجنّة، وأُعطي ذلك، فما بالك بالصلاة، والعلم، والذِّكر ونحو ذلك من أنواع العبادات، مما يموت المرء ملازمًا لها، ومحبّا للاستمرار على العمل بها، إلا يُعطى إن طلب ذلك؟ نعم -إن شاء الله- وفوق ذلك، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ذكر الإمام ابن حبّان -رَحِمَهُ اللهُ- في "صحيحه" بعد إخراجه حديث أنس - رضي الله عنه - هذا بحثًا نفيسًا يتعلّق بالحديث، أحببت إيراده هنا تكميلًا للفوائد، ونشرًا للعوائد، قال:
قال أبو حاتم: الله جل وعلا قادر على ما يشاء، ربما يُعِدّ الشيء لوقت معلوم، ثم يقضي كون بعض ذلك الشيء قبل مجيء ذلك الوقت، كوعده إحياء الموتى يوم القيامة، وجعله محدودًا، ثم قضى كون مثله في بعض الأحوال، مثل مَن ذَكره الله، وجعله الله جل وعلا في كتابه، حيث يقول:{أَو كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَو بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} إلى آخر الآية [البقرة: ٢٥٩]، وكإحياء الله جل وعلا لعيسى ابن مريم -صلوات الله عليه- بعض الأموات، فلما صحّ وجود كون هذه الحالة في البشر إذا أراده الله جل وعلا قبل يوم القيامة، لَمْ يُنكَر أن الله جل وعلا أحيا موسى في قبره، حتى مَرّ عليه المصطفى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة أسري به، وذاك أن قبر موسى بمدينة بين المدينة وبين بيت المقدس، فرآه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو في قبره؛ إذ الصلاة دعاء.
قال الجامع عفا الله عنه: حَمْله الصلاة على الدعاء غير ظاهر، بل هي