للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الجواب بقوله: الله أعلم: بل الجواب أنّ ردَّ العلم إلى الله -سبحانه وتعالى- متعيّن، أجاب أم لا، فإن أجاب قال: أنا والله أعلم، وإن لم يجب قال: الله أعلم، وبهذا تأدّب المُفتون عقب أجوبتهم، والله أعلم.

ولعل موسى -عليه السلام- لو قال: أنا والله أعلم؛ أي: هذا لكان جوابًا، وإنما وقعت المؤاخذة على الاقتصار على قوله: أنا أعلم.

وقال المازريّ في الجواب: أما على رواية مَن روى: "هل تعلم؟ " فلا عتب عليه، إذا أخبر عما يعلم، وأما على رواية: "أيُّ الناس أعلم؟ " وقد أخبر الله تعالى أن الخضر أعلم منه، فمراد موسى -عليه السلام-: أنا أعلم؛ أي: فيما ظهر لي، واقتضاه شاهد الحال، ودلالة النبوة؛ لأن موسى في النبوة بالمكان الأرفع، والعلم من أعلى المراتب، فقد يعتقد أن يكون أعلم لهذه الأمور، وقيل: المراد أنه أعلم بما تقتضيه وظائف النبوة، وأمور الشريعة، والخضر أعلم منه على الخصوص بأمور أخر غير عينية، وكان موسى أعلم على العموم، والخضر أعلم منه على الخصوص. انتهى (١).

(قَالَ: فَعَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ) من بابي ضرب، وقتل، يقال: عَتَب عليه عَتْبًا، ومَعْتَبًا أيضًا: لَامَه في تسخّط، فهو عاتب، وعتّابٌ مبالغة، وعاتبه معاتبةً وعِتابًا، قال الخليل: حقيقة العتاب مخاطبةُ الإدلال، ومُذاكرة الْمَوْجِدَةِ، قاله الفيّوميّ -رحمه الله- (٢).

(إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ) "إذ" تعليليّة؛ أي: لأنه لم يردّ العلم إلى الله تعالى حين أجاب بقوله: "أنا أعلم"، وهذا من باب التنبيه لموسى -عليه السلام-، والتعليم لمن بعده لئلا يقتدي به غيره في ذلك؛ إذ فيه تزكية للنفس، وقد قال الله -عز وجل-: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: ٣٢].

وقال القرطبيّ -رحمه الله-: مساق هذه الرواية هو أكمل ما سيق هذا الحديث عليه، فلنبحث فيه، وظاهر هذا اللفظ: أن الذي عتب الله تعالى على موسى -عليه السلام- إنما هو أن قال: أنا أعلم، فأضاف الأعلمية إليه، ولم يقل: الله أعلم بمن هو أعلم الناس، فيفوَّض ذلك إلى الله، فيكون هذا من نوع ما عتبة


(١) "عمدة القاري" ٢/ ١٩٣.
(٢) "المصباح المنير" ٢/ ٣٩١.