للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فَرَأَى رَجُلًا، مُسَجًّى)؛ أي: مغطًّى (عَلَيْهِ بِثَوْبٍ)، وفي رواية: "مُستلقيًا على القفا، أو قال: على حلاوة القفا"؛ أي: مباشرًا بظهره وقفاه الأرض، مستقبلًا بوجهه السماء، كهيئة الميت، وقال القرطبيّ: وقوله: "حلاوة القفا"؛ يعني بها -والله أعلم-: أن هذه الضجعة مما تُستحلَى؛ لأنَّها ضِجعة استراحة، فكأنه قال: أو حلاوة ضجعة القفا، ويقال: بضم الحاء، وفتحها، وحلاء بالضم والمد، وبه، وبالقصر، وكأن هذه الضجعة من الخضر كانت بعد تعب عبادة، وآثر هذه الضجعة لِمَا فيها من تردُّد البصر في المخلوقات، ورؤية عجائب السماوات، فكأن الخضر في هذه الضجعة متفرغ عن الخليقة، مملوء بما لاح له من الحقّ والحقيقة، ولذلك لما سلَّم عليه موسى -صلى الله عليه وسلم- كشف الثوب عن وجهه، وقال: وعليك السلام، من أنت؟. انتهى (١).

(فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى) -عليه السلام- (فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: أَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟)؛ معناه: من أين تعرف السلام بهذه الأرض التي أنت فيها؟! وقال في "الفتح": قوله: "أنَّى"؛ أي: كيف بأرضك السلام؟ ويؤيده ما في "التفسير": "هل بأرضي من سلام؟ "، أو من أين، كما في قوله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: ٣٧]، والمعنى: من أين السلام في هذه الأرض التي لا يُعرف فيها؟ وكأنها كانت بلاد كفر، أو كانت تحيتهم بغير السلام، وفيه دليل على أن الأنبياء، ومَنْ دونهم لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم الله تعالى؛ إذ لو كان الخضر يعلم كل غيب لعرف موسى قبل أن يسأله. انتهى (٢).

وقال القرطبيّ -رحمه الله-: قوله: "أنّى بأرضك السلام؟ " هذا يَحْتَمِل وجهين:

[أحدهما]: أن ذلك الموضع كان قفرًا لم يكن به أحدٌ يصحبه، ولا أنيس، فيكلمه، ويَحْتَمِل أن يكون أهل ذلك الموضع لا يعرفون السلام الذي سلّم به موسى عليه، إما لأنهم ليسوا على دين موسى، وإما لأنه ليس من كلامهم.

و"أنى" تأتي بمعنى حيث، وكيف، وأين، ومتى، حكاه القاضي، وفي هذا من الفقه: تسليم القائم على المضطجع، وهذا القول من الخضر كان بعد


(١) "المفهم" ٦/ ١٩٩.
(٢) "الفتح" ١/ ٣٨٣.