للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: ٥٢].

قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: وقوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}، قيل: معناه: يدعون ربهم بالغداة بطلب التوفيق والتيسير، وبالعشي: قيل: معناه: بطلب العفو عن التقصير، وقيل: معناه: يذكرون الله بعد صلاة الصبح، وصلاة العصر، وقيل: يصلّون الصبح والعصر، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: يصلّون الصلوات الخمس، وقال يحيى بن أبي كثير: هي مجالس الفقه بالغداة والعشيّ، وقيل: يعني به: دوام أعمالهم، وعباداتهم؛ وإنَّما خصَّ طرفي النهار بالذِّكر؛ لأنَّ مَن عمل في وقت الشغل كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل.

وقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}؛ أي: يُخْلصون في عباداتهم، وأعمالهم لله تعالى، ويتوجهون إليه بذلك لا لغيره، ويصح أن يقال: يقصدون بأعمالهم رؤية وجهه الكريم.

وقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: من جزائهم، ولا كفاية رزقهم؛ أي: جزاؤهم، ورزقهم، وجزاؤك، ورزقك على الله تعالى، لا على غيره، فكأنه يقول: وإذا كان الأمر كذلك، فأقبِل عليهم، وجالِسهم، ولا تطردهم؛ مراعاة لحقّ من ليس على مثل حالهم في الدِّين والفضل، فإنْ فعلت كنت ظالِمًا، وحاشاه من وقوع ذلك منه؛ وإنَّما هذا بيان للأحكام، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل الإسلام، وهذا نحو قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: ٦٥]، وقد علم الله منه أنه لا يشرك، ولا يحبط عمله.

وقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} نصب بالفاء في جواب النفي، وقد تقدم أن الظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه، ويحصل من فوائد الآية والحديث: النهي عن أن يُعظَّم أحدٌ لجاهه، وأثوابه، وعن أن يُحتقر أحدٌ لخموله، ورثاثة ثوبيه. انتهى (١).

وقال الإمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ-: قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}؛ أي: لا تُبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك، وأخصاءك؛ كقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ


(١) "المفهم" ٦/ ٢٨٥ - ٢٨٦.