والذي قبله حسنٌ جدًّا، وإن تعقّبه العينيّ، فإنه مجرّد دفاع عن مذهبه، والحقّ أن الصلاة في أوقات الكراهة جائزة؛ لأدلّة كثيرة، ومنها هذا الحديث، وقد تقدّمت في محلّها من "كتاب الصلاة"، وذكرت الأقوال بأدلّتها، وتوصّلت إلى ترجيح القول بجوازها؛ لكثرة أدلّته الصحيحة، فراجعها هناك تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
١١ - (ومنها): ما قاله القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: قول النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبلال - رضي الله عنه -:
"حدِّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام منفعة" هذا السُّؤال إنما أخرجه من النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما اطَّلع عليه من كرامة بلال - رضي الله عنه - بكونه أمامه في الجَنَّة، فسأله عن العمل الذي لازمه حتى أوصله إلى ذلك، وقد جاء هذا الحديث في كتاب الترمذيّ بأوضح من هذا من حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه -، قال: أصبح رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدعا بلالًا، فقال:"يا بلال، سبقتني إلى الجَنَّة؟ فما دخلت الجَنَّة قط إلَّا سمعت خشخشتك أمامي، دخلت البارحة الجنَّة فسمعت خشخشتك أمامي … "، وذكر الحديث، فقال بلال: يا رسول الله! ما أذَّنت إلَّا صلّيت ركعتين، ولا أصابني حدث قط إلَّا توضأت عنده، ورأيت أن لله تعالى عليّ ركعتين، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بهما"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
قال القرطبيّ: فلنبحث في هذا الحديث، قوله:"، سبقتني إلى الجَنَّة؟ " لا يُفْهَم من هذا أن بلالًا يدخل الجَنَّة قبل النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإنَّ ذلك ممنوع بما قد عُلم من أن النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو السابق إلى الجَنَّة، وبما قد تقدَّم أنه أوَّل من يستفتح باب الجَنَّة، فيقول الخازن:"بك أُمرتُ، لا أفتح لأحد قبلك"، رواه مسلم، وإنما هذه رؤيا منام أفادت أن بلالًا من أهل الجَنَّة، وأنه يكون فيها مع النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن ملازميه، وهذا كما قال في الغميصاء:"سمعت خشخشتك أمامي"، وقد لا يبعد أن يقال في أسبقية بلال أنَّها أسبقية الخادم بين يدي مخدومه، والله تعالى أعلم.
وفيه ما يدلّ على أنَّ استدامة بعض النوافل، وملازمتها في أوقات، وأحوال فيه فضل عظيم، وأجر كثير، وإن كان النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَدُم عليها، ولا لازَمها، ولا اشتهر العمل بها عند أصحابه - رضي الله عنهم -، وأن ذلك لا يُنكَر على من