وحاصل ما أشار إليه أبو هريرة -رضي الله عنه- بهذا الكلام: أن المهاجرين كانوا تُجّارًا، والأنصار كانوا أصحاب زرع، فيغيبون بها عن حضرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أكثر أحواله، ولا يسمعون من حديثه إلا ما كان يُحَدّث به في أوقات شهودهم، وأبو هريرة -رضي الله عنه- حاضر دهره، لا يفوته شيء منها، إلا ما شاء الله؛ لأنه ليس عنده ما يشغله عن ذلك، ثم لا يستولي عليه النسيان؛ لِصِدق عنايته بضبطه، وقلة استعماله بغيره، وقد لحقته دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقامت له الحجة على من أنكر أمره، واستغرب شأنه، والله تعالى أعلم (١).
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ)؛ أي: حين أحدّث بالحديث، (فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي") قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: (فَبَسَطْتُ ثَوْبِي) وفي رواية: "بُردةً"، وفي رواية:"نَمِرَةً"، والمراد: بَسْط بعضه، لا كلّه؛ لئلا يلزم منه كشف العورة. (حَتَّى قَضَى)؛ أي: حتى أنهى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (حَدِيثَهُ) وفرغ منه، (ثُمَّ ضَمَمْتُهُ إِليَّ) وفي رواية: "ثم قال: ضمّه، فضممته"، (فَمَا نَسِيتُ) بكسر السين المهملة، من باب تَعِبَ. (شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ) قال في "الفتح": وتنكير "شيئًا" بعد النفي ظاهر العموم في عدم النسيان منه لكل شيء من الحديث وغيره، ووقعٍ في رواية ابن عيينة وغيره عن الزهريّ:"فوالذي بعثه بالحقّ ما نسيت شيئًا سمعته منه"، وفي رواية يونس الآتية عند مسلم:"فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئًا حدَّثني به"، وهذا يقتضي تخصيص عدم النسيان بالحديث.
ووقع في رواية شعيب:"فما نسيت من مقالته تلك من شيء"، وهذا
يقتضي عدم النسيان بتلك المقاله فقط، لكن سياق الكلام يقتضي ترجيح رواية يونس، ومن وافقه؛ لأن أبا هريرة -رضي الله عنه- نبّه به على كثرة محفوظه من الحديث، فلا يصحّ حمله على تلك المقالة وحدها.
ويَحْتَمِل أن تكون وقعت له قضيتان، فالتي رواها الزهريّ مختصة بتلك المقالة، والقضية التي رواها سعيد المقبريّ عامّة.
وأما ما أخرجه ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو بن أمية، قال:"تحدثت عند أبي هريرة بحديث، فأنكره، فقلت: إني سمعت منك، فقال: إن كنت سمعته مني فهو مكتوب عندي"، فقد يُتَمَسّك به في تخصيص عدم