وقال ابن الجوزيّ: ليس هذا على الاستقبال، وإنما هو على الماضي، تقديره: اعملوا ما شئتم، أَيُّ عملٍ كان لكم فقد غُفِر، قال: لأنه لو كان للمستقبَل كان جوابه: فسأغفر لكم، ولو كان كذلك لكان إطلاقًا في الذنوب، ولا يصحّ، ويبطله أن القوم خافوا من العقوبة بعدُ حتى كان عمر يقول: يا حذيفة! بالله هل أنا منهم؟
وتعقبه القرطبيّ بأن "اعملوا" صيغة أمر، وهي موضوعة للاستقبال، ولم تضع العرب صيغة الأمر للماضي، لا بقرينة، ولا بغيرها؛ لأنهما بمعنى الإنشاء، والابتداء، وقوله:"اعملوا ما شئتم" يُحْمَل على طلب الفعل، ولا يصحّ أن يكون بمعنى الماضي، ولا يمكن أن يُحْمَل على الإيجاب، فتعيَّن للإباحة، قال: وقد ظهر لي أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف، تضمَّن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غُفرت بها ذنوبهم السالفة، وتأهلوا أن يُغفر لهم ما يُستأنف من الذنوب اللاحقة، ولا يلزم من وجود الصلاحية للشيء وقوعه، وقد أظهر الله صِدْق رسوله -صلى الله عليه وسلم- في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قُدِّر صدور شيء من أحدهم لبادر إلى التوبة، ولازم الطريق المثلى، ويَعْلَم ذلك من أحوالهم بالقطع مَن اطَّلع على سِيَرهم. انتهى.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد بقوله:"فقد غفرت لكم"؛ أي: ذنوبُكُم تقع مغفورةً، لا أن المراد أنه لا يصدر منهم ذنب، وقد شَهِد مِسطح بدرًا، ووقع في حقّ عائشة، كما تقدم قريبًا، فكأن الله لكرامتهم عليه بشَّرهم على لسان نبيِّه -صلى الله عليه وسلم- أنهم مغفور لهم، ولو وقع منهم ما وقع. انتهى ما في "الفتح"(١)، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وعبارة القرطبيّ -رحمه الله- بطولها: وظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اعملوا ما شئتم" إباحة كل الأعمال، والتخيير فيما شاؤوا من الأفعال، وذلك في الشريعة محال؛ إذ المعلوم من قواعدها: أن التكليف بالأوامر، والنواهي، متوجهة على كل من كان موصوفًا بشرطها إلى موته، ولمّا لم يصح ذلك الظاهر اضطُرّ إلى تأويله،
(١) "الفتح" ١٠/ ٦٨٥ - ٦٨٦، كتاب "التفسير" رقم (٤٨٩٠).