للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فقال أبو الفرج ابن الجوزي: ليس قوله: "اعملوا ما شئتم" للاستقبال؛ وإنَّما هي للماضي، وتقديره: أي عمل كان لكم فقد غفرته، قال: ويدلّ على ذلك شيئان:

أحدهما: أنه لو كان للمستقبَل كان جوابه: سأغفر.

والثاني: أنه كان يكون إطلاقًا في الذنوب، ولا وجه لذلك، ويوضح هذا: أن القوم خافوا من العقوبة مما بعدُ، فقال عمر: يا حذيفة! هل أنا منهم؟ -يعني: المنافقين-.

قال القرطبيّ: وهذا التأويل، وإن كان حَسَنًا غير أن فيه بُعدًا؛ يبيّنه: أنَّ "اعملوا" صيغته صيغة الأمر، وهي موضوعة للاستقبال، ولم تضع العرب قط صيغة الأمر موضع الماضي، لا بقرينة، ولا بغير قرينة، هكذا نص عليه النحويون، وصيغة الأمر إذا وردت بمعنى الإباحة: إنما هي بمعنى الإنشاء، والابتداء، لا بمعنى الماضي، فتدبَّر هذا؛ فإنه حَسَن، وقد بيّنته في الأصول بأشبع من هذا، واستدلاله على ذلك بقوله: "فقد غفرت لكم"، ليس بصحيح؛ لأنَّ: "اعملوا ما شئتم" يستحيل أن يُحْمَل على طَلَب الفعل، ولا يصح أن يكون بمعنى الماضي؛ لِمَا ذكرناه، فتعيَّن حَمْله على الإباحة والإطلاق، وحينئذ يكون خطابَ إنشاء، فيكون كقول القائل: أنت وكيلي، وقد جعلت لك التصرف كيف شئت، فإنَّ ذلك إنما يقتضي إطلاق التصرف في وقت التوكيل، لا قبل ذلك.

قال: وقد ظهر لي وجه آخر، وأنا أستخير الله فيه، وهو: أن الخطاب خطاب إكرام وتشريف تضمَّن: أن هؤلاء القوم حصلت لهم حالة غُفرت لهم بها ذنوبهم السالفة، وتأهلوا بها لِأَنْ يُغْفَر لهم ذنوب مستأنفة إن وقعت منهم، لا أنهم نُجِّزت لهم في ذلك الوقت مغفرة الذنوب اللاحقة، بل: لهم صلاحية أن يُغفر لهم ما عساه أن يقع، ولا يلزم من وجود الصلاحية لشيءٍ ما وجود ذلك الشيء؛ إذ لا يلزم من وجود أهلية الخلافة وجودها لكل من وجدت له أهليتها، وكذلك القضاء وغيره، وعلى هذا فلا يأْمَن من حصلت له أهلية المغفرة من المؤاخذة على ما عساه أن يقع منه من الذنوب، وعلى هذا يخرج حال كل من بشَّره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه مغفورٌ له، وأنه من أهل الجنة، فيتضمَّن ذلك مغفرة ما مضى، وثبوت الصلاحية للمغفرة والجنة بالنسبة لِمَا يستقبل،