الاعتراف يدفع عنا وعنكم معرّة الاختلاف، ويريحنا ويريحكم من التطويل بالكلام على ما أوردتموه، وأوردناه.
وإن قالوا: ليس ذلك لفائدة عائدة عليه، وعلى أمته بالخير جالبة لِمَا فيه مصلحة، دافعة لِمَا فيه مفسدة، فهم أجهل من دوابّهم، وليس للمحاجّة لهم فائدة، ولا في المناظرة معهم نَفْع.
يا عجبًا كل العجب أمَا بلغهم ما كان عليه أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أول نبوّته إلى أن قبضه الله إليه من الدعاء لربه، والإلحاح عليه، ورفع يديه عند الدعاء حتى يبدو بياض إبطيه، وحتى يسقط رداؤه، كما وقع منه في يوم بدر، فهل يقول عاقل فضلًا عن عالم: إن هذا الدعاء فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو يعلم أنه لا فائدة فيه، وأنه قد سبق العلم بما هو كائن، وأن هذا السبق يرفع فائدة ذلك، ويقتضي عدم النفع به؟ ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم بربّه، وبقضائه وقدره، وبأزليّته، وسَبْق عِلْمه بما يكون في بريّته، فلو كان الدعاء منه ومن أمته لا يفيد شيئًا، ولا ينفع نفعًا لم يفعله، ولا أرشد الناس إليه، وأمَرَهم به، فإن ذلك نوع من العَبَث الذي يتنزّه عنه كل عاقل فضلًا عن خير البشر، وسيّد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم -.
ثم يقال لهم: إذا كان القضاء واقعًا لا محالة، وأنه لا يدفعه شيء من الدعاء، والالتجاء، والإلحاح، والاستغاثة، فكيف لم يتأدّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ربّه، فإنه قد صحّ عنه أنه استعاذ بالله سبحانه وتعالى من سوء القضاء، كما عرّفناك، وقال:"وقني شرّ ما قضيت"، فكيف يقول هؤلاء الغلاة في الجواب عن هذا، أو على أيّ محمل يحملونه؟.
ثم ليت شعري علام يحملون أمره سبحانه وتعالى لعباده بدعائه بقوله:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، ثم عقّب ذلك بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر: ٦٠]؛ أي: عن دعائي، كما صرّح بذلك أئمة التفسير، فكيف يأمر عباده أولًا، ثم يجعل تركه استكبارًا منهم، ثم يرغّبهم إلى الدعاء، ويخبرهم أنه قريب من الداعي مجيب لدعوته بقوله:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة: ١٨٦]، ثم يقول معنونًا لكلامه الكريم بحرف يدلّ على الاستفهام الإنكاريّ والتقريع والتوبيخ: {أَمَّنْ يُجِيبُ