للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وها هنا أمر خفيّ ينبغي التفطن له، وهو أن كثيرًا من أئمة الدين، قد يقول قولًا مرجوحًا، ويكون مجتهدًا فيه، مأجورًا على اجتهاده فيه، موضوعًا عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة؛ لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لَمَا قَبِله، ولا انتصر له، ولا وَالَى من وافقه، ولا عادى من خالفه، ولا هو مع هذا يظنّ أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه، وليس كذلك، فإن متبوعه إنما كان قَصْده الانتصار للحقّ، وإن أخطأ في اجتهاده، وأما هذا التابع فقد شابه انتصاره لِمَا يظنه الحقّ إرادة علوّ متبوعه، وظهور كلمته، وأنه لا يُنسَب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحقّ، فافهم هذا، فإنه مهمّ عظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله (١)، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، ينبغي العناية بفهمه، وتطبيقه عمليًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.

(المسألة الخامسة): قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحاسدوا"؛ يعني: لا يَحْسُدْ بعضكم بعضًا، والحسد مركوز في طباع البشر، وهو أن الإنسان يَكره أن يفوقه أحدٌ من جنسه في شيء من الفضائل، ثم ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام:

فمنهم: من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل، ثم منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه، ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط، من غير نَقْل إلى نفسه، وهو شرّهما، وأخبثهما، وهذا هو الحسد المذموم المنهيّ عنه، وهو كان ذنبَ إبليس، حيث كان حسد آدم عليه السلام لمّا رآه قد فاق على الملائكة بأن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلَّمه أسماء كل شيء، وأسكنه في جواره، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة، حتى أخرجه منها، ويُرْوَى عن ابن عمر -رضي الله عنهما - أن إبليس قال لنوح عليه السلام: اثنان أُهلك بهما بني آدم: الحسدُ وبالحسد لُعِنتُ، وجُعلت شيطانًا رجيمًا، والحرصُ أبيح آدم الجنة كلها، فأصبت حاجتي منه بالحرص. خرّجه ابن أبي الدنيا.

وقد وصف الله عز وجل اليهود بالحسد في مواضع من كتابه القرآن،


(١) "جامع العلوم والحكم" ٢/ ٢٦٥ - ٢٦٨.