للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

اختلفوا في الطريق، فالقائلون بالتقبيح والتحسين عقلًا يقولون: يستحيل عليه؛ لِقُبحه، ومن لا يقول بذلك يقولون: يستحيل عليه؛ لاستحالة شرطه في حقه تعالى، وذلك أن الظلم إنما يتصوّر في حقّ من حدّت له حدود، ورُسمت له مراسم، فمن تعدّاها كان ظالِمًا، والله تعالى هو الذي حدّ الحدود، ورَسَم الرسوم؛ إذ لا حاكم فوقه، ولا حاجر عليه، فلا يجب عليه حكم، ولا يترتّب عليه حقّ، فلا يُتصوّر الظلم في حقه. انتهى (١).

(وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا)؛ أي: حكمت بتحريمه عليكم، وألزمته إيّاكم (فَلَا تَظَالَمُوا) بفتح التاء، أصله: تتظالموا، حُذفت منه إحدى التاءين تخفيفًا، كما في قوله تعالى: {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: ١٤]، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: ٤]، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ … فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيّنُ الْعِبَرْ"

أي: لا يظلم بعضكم بعضًا، وهذا توكيد لقوله تعالى: "وجعلته بينكم محرّمًا"، وزيادة تغليظ في تحريمه.

(يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ)؛ أي: عن كلّ كمال وسعادة دينيّة، ودنيويّة، (إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ) قال الطيبيّ - رحمه الله -: لمّا كان الخطاب بعدَ "يا عبادي" معنيًّا به، مهتمًّا بشأنه كرّره تنبيهًا على فخامته، ونسبة الضلال إلى الكلّ بحسب مراتبهم. انتهى (٢).

وقال المازريّ: ظاهر هذا أنهم خُلقوا على الضلال، إلا من هداه الله تعالى، وفي الحديث المشهور: "كلُّ مولود يولد على الفطرة". قال: فقد يكون المراد بالأول: وَصْفهم بما كانوا عليه قبل مبعث النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أو أنهم لو تُركوا، وما في طباعهم من إيثار الشهوات والراحة، وإهمال النظر لضلُّوا، وهذا الثاني أظهر.

وفي هذا دليل لمذهب أصحابنا وسائر أهل السُّنَّة أن المهتدي هو من هداه الله، وبهدي الله اهتدى، وبإرادة الله تعالى ذلك، وأنه - سبحانه وتعالى - إنما أراد هداية


(١) "المفهم" ٦/ ٥٥٢.
(٢) "الكاشف عن حقائق السنن" ٦/ ١٨٣٧.