بعض عباده، وهم المهتدون، ولم يُرد هداية الآخرين، ولو أرادها لاهتَدَوا؛ خلافًا للمعتزلة في قولهم الفاسد: إنه - سبحانه وتعالى - أراد هداية الجميع، جلّ الله أن يريد ما لا يقع، أو يقع ما لا يريد. انتهى (١).
وقال القرطبيّ - رحمه الله -: قوله: "كلّكم ضالّ إلا من هديته" قيل في معناه قولان:
أحدهما: أنهم لو تُركوا مع العادات، وما تقتضيه الطباع من الميل إلى الراحات، وإهمال النظر المؤدِّي إلى المعرفة لغلبت عليهم العادات، والطباع، فضلّوا عن الحقّ، فهذا هو الضلال المعنيّ، لكن من أراد الله تعالى توفيقه ألهمه إلى إعمال الفكر المؤدّي إلى معرفة الله تعالى، ومعرفة الرسول؛ وأعانه على الوصول إلى ذلك، وعلى العمل بمقتضاه، وهذا هو الهُدَى الذي أمرنا الله تعالى بسؤاله.
وثانيهما: أن الضلال ها هنا يُعنَى به الحال التي كانوا عليها قبل إرسال الرُّسل من الشرك، والكفر، والجهالات، وغير ذلك، كما قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}[البقرة: ٢١٣]؛ أي: على حالة واحدة من الضلال والجهل، فأرسل الله الرسل؛ ليزيلوا عنهم ما كانوا عليه من الضلال، ويبيّنوا لهم مرادَ الحقّ منهم في حالهم، ومآل أمرهم، فمن نبّهه الحقّ - سبحانه وتعالى -، وبصّره، وأعانه فهو المهتدي، ومن لم يفعل الله به ذلك بقي على ذلك الضلال.
وعلى كل واحد من التأويلين فلا معارضة بين قوله تعالى:"كلكم ضال إلا من هديته"، وبين قوله:"كلّ مولود يولد على الفطرة"؛ لأنَّ هذا الضلال المقصود في هذا الحديث هو الطارئ على الفطرة الأولى المغيِّر لها، الذي بيّنه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالتمثيل في بقية الخبر، حيث قال:"كما تُنتج البهيمة بهيمة جمعاء"، وبقوله:"خلق الله الخلق على معرفته، فاجتالتهم الشياطين".
وهذا الحديث حجَّة لأهل الحقّ على قولهم: إن الهدى والضلال خَلْقه، وفِعله، يختص بما شاء منهما من شاء مِنْ خَلْقه، وأن ذلك لا يقدر عليه إلا