وقال بعض الحكماء: كوننا مصيبين من وجه، وكوننا ضالين من وجوه كثيرة، فإن الاستقامة والصواب يجري مجرى الْمُقَرْطس من الْمَرْمَى، وما عداه من الجوانب كلها ضلال.
ولما قلنا: روي عن بعض الصالحين أنه رأى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في منامه فقال: يا رسول الله يروى لنا أنك قلت: "شيَّبتني سورة هود، وأخواتها، فما الذي شيَّبك منها؟ فقال: قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}[هود: ١١٢] ".
وإذا كان الضلال تَرْك الطريق المستقيم عمدًا كان أو سهوًا، قليلًا كان أو كثيرًا، صحّ أن يُستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأٌ ما، ولذلك نُسب الضلال إلى الأنبياء، وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بَوْنٌ بعيدٌ، ألا ترى أنه قال في النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧)} [الضحى: ٧]؛ أي: غير مهتدٍ لِمَا سيق إليك من النبوة، وقال في يعقوب:{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ}[يوسف: ٩٥]، وقال أولاده:{إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[يوسف: ٨]، إشارة إلى شغفه بيوسف، وشوقه إليه، وكذلك:{قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[يوسف: ٣٠]، وقال عن موسى - عليه السلام -: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}[الشعراء: ٢٠]، تنبيهٌ أن ذلك منه سهوٌ، وقوله:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا}[البقرة: ٢٨٢]؛ أي: تنسى، وذلك من النسيان الموضوع عن الإنسان.
والضلال من وجه آخر ضربان: ضلالٌ في العلوم النظرية؛ كالضلال في معرفة الله ووحدانيته، ومعرفة النبوة، ونحوهما المشار إليهما بقوله:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}[النساء: ١٣٦].
وضلال في العلوم العملية؛ كمعرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات، والضلال البعيد إشارة إلى ما هو كفر؛ كقوله على ما تقدم من قوله:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ}[النساء: ١٣٦]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (١٦٧)} [النساء: ١٦٧]، وكقوله:{فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ}[سبأ: ٨]؛ أي: في عقوبة الضلال البعيد، وعلى ذلك قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ
= أخرجه مالك في "الموطأ" ١/ ٣٤، وأحمد ٥/ ٢٨٠، والحاكم ١/ ١٣٠، والدرامي من طرق صحاح ١/ ١٦٨.