للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

صرفه، وانصرافه عنه، ويصير ذلك كالطبع الذي يأبى على الناقل، ولذلك قيل: العادة طبع ثان، وهذه القوة في الإنسان فعل إلهيّ، وإذا كان كذلك - وقد ذُكر في غير هذا الموضع أن كل شيء يكون سببًا في وقوع فعل - صح نسبة ذلك الفعل إليه، فصح أن يُنسب ضلال العبد إلى الله من هذا الوجه، فيقال: أضله الله، لا على الوجه الذي يتصوره الجهلة، ولِمَا قلناه جَعَل الإضلال المنسوب إلى نفسه للكافر، والفاسق، دون المؤمن، بل نفى عن نفسه إضلال المؤمن، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} [التوبة: ١١٥]، {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ} [محمد: ٤، ٥]، وقال في الكافر والفاسق: {فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: ٨]، {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: ٢٦]، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر: ٧٤]، {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: ٢٧]، وعلى هذا النحو تقليب الأفئدة في قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} [الأنعام: ١١٠]، والختم على القلب في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: ٧]، وزيادة المرض في قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: ١٠]. انتهى كلام الراغب - رحمه الله - (١)، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(فَاسْتَهْدُونِي)؛ أي: اطلبوا منّي الهداية، (أَهْدِكُمْ) بفتح الهمزة، مضارع هدى ثلاثيًّا، وبضمها، فإنه مضارع أهدى رباعيًّا، ولا يُناسِب هنا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ولَمّا فرغ من الامتنان بالأمور الدينيّة، شرع في الأمور الدنيويّة تكميلًا للمرتبتين، مقتصرًا على الأمرين الأهمّين منها، وهما: الأكل واللبس؛ كقوله تعالى في وصف الجنّة: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (١١٩)} [طه: ١١٨، ١١٩]، ولعلّه تَرَك الظمأ اكتفاء بدلالة المقابلة، نحو قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: ٨١]؛ أي: والبرد، وترك المأوى لشمول الكسوة التي هي السترة له إيماءً، أو إشارةً، قاله القاري (٢).

وعبارة الطيبيّ: ولَمّا فرغ من الامتنان بأمور الدين شرع في الامتنان بأمور


(١) "مفردات ألفاظ القرآن الكريم" ٢١/ ٥٠٩ - ٥١٢.
(٢) "المرقاة" ٥/ ١٥٥.