للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في الكذب المذكور في الحديث:

قال القاضي عياض - رحمه الله -: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور المذكورة في هذا الحديث، واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع؛ للمصلحة، وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرّة، واحتجوا بقول إبراهيم - عليه السلام -: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: ٦٣]، وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: ٨٩]، وقوله: "إنها اختي"، وقول منادي يوسف - عليه السلام -: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: ٧٠]، قالوا: ولا خلاف أنه لو قَصَد ظالم قَتْل رجل هو عنده مختفٍ، وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو؟.

وقال آخرون، منهم الطبريّ: لا يجوز الكذب في شيء أصلًا، قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المرادُ به التورية، واستعمال المعاريض، لا صريح الكذب، مثل أن يَعِد زوجته أن يُحسن إليها، ويكسوها كذا، وينوي إن قَدّر الله ذلك.

وحاصله: أن يأتي بكلمات مُحْتَمِلة، يَفهم المخاطَب منها ما يُطَيِّب قلبه، وإذا سعى في الإصلاح نَقَل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلامًا جميلًا، ومن هؤلاء إلى هؤلاء كذلك، ووَرَّى، وكذا في الحرب، بأن يقول لعدوّه: مات إمامكم الأعظم، وينوي إمامهم في الأزمان الماضية، أو غدًا يأتينا مددٌ؛ أي: طعام ونحوه، هذا من المعاريض المباحة، فكل هذا جائز، وتأولوا قصة إبراهيم، ويوسف، وما جاء من هذا على المعاريض، والله أعلم.

وأما كَذِبه لزوجته، وكذبها له، فالمراد به في إظهار الودّ والوعد بما لا يلزم، ونحو ذلك، فأما المخادعة في مَنْع ما عليه، أو عليها، أو أخْذ ما ليس له، أو لها، فهو حرام وإجماع المسلمين، والله أعلم. انتهى (١).

وقال في "العمدة": قال الطبريّ: اختَلف العلماء في هذا الباب، فقالت طائفة: الكذب المرخَّص فيه في هذه هو جميع معاني الكذب، فحمَله قوم على


(١) "شرح النوويّ" ١٦/ ١٥٧ - ١٥٨.