الإطلاق، وأجازوا قول ما لم يكن في ذلك؛ لِمَا فيه من المصلحة؛ فإن الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرّة للمسلمين، واحتجوا بما رواه عبد الملك بن ميسرة، عن النّزّال بن سَبْرة، قال: كنا عند عثمان، وعنده حذيفة، فقال له عثمان: بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا، فقال حذيفة: والله ما قلته، قال: وقد سمعناه قال ذلك، فلما خرج قلنا له: أليس قد سمعناك تقوله؟ قال: بلى، قلنا: فلِمَ حلفت؟ فقال: إني أستر دِيني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله.
وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء من الأشياء، ولا الخبر عن شيء بخلاف ما هو عليه، وما جاء في هذا إنما هو على التورية، وطريق المعاريض، تقول للظالم: فلان يدعو لك، وتنوي قوله: اللَّهُمَّ اغفر لجميع المسلمين، ويَعِد زوجته، وبنته، ويريد في ذلك: إن قدّر الله تعالى، أو إلى مدّة، وكذلك الإصلاح بين الناس، وحديث المرأة زوجها يَحْتَمِل أنه مما يحدّث أحدهما الآخر من وُدّه له، واغتباطه به، والكذب في الحرب هو أن يُظهر من نفسه قوّة، ويتحدث بما يَشْحَذ به بصيرة أصحابه، ويكيد به عدوّه، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحرب خَدْعَة".
وقال المهلَّب: ليس لأحد أن يعتقد إباحة الكذب، وقد نهى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الكذب نهيًا مطلقًا، وأخبر أنه مخالف للإيمان، فلا يجوز استباحة شيء منه، وإنما أطلق النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للمصلح بين الناس؛ أن يقول ما عَلِم من الخير بين الفريقين، ويسكت عما سمع من الشرّ بينهم، ويَعِد أن يسهّل ما صَعُب، ويقرّب ما بعُد، لا أنه يُخبِر بالشيء على خلاف ما هو عليه؛ لأن الله قد حرّم ذلك، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الرجل يَعِدُ المرأة، ويُمَنِّيها، وليس هذا من طريق الكذب؛ لأن حقيقته الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، والوعد لا يكون حقيقة حتى يُنجَز، والأنجاز مرجوّ في الاستقبال، فلا يصلح أن يكون كذبًا، وكذلك في الحرب، إنما يجوز فيها المعاريض، والأبهام بألفاظ تَحْتَمِل وجهين، فيُوَرِّي بها عن أحد المعنيين؛ ليغترّ السامع بأحدهما عن الآخر، وليس حقيقته الإخبار عن الشيء بخلافه وضدّه، ونحوُ ذلك، ما رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه مازح عجوزًا، فقال:"إن العُجَّز لا يدخلن الجنة"، فأوهمها