وهؤلاء هم أهل الهدى، ودين الحقّ، أصحاب العلم النافع، والعمل الصالح الذين صدّقوا الرسول في أخباره، ولم يعارضوها بالشبهات، وأطاعوه في أوامره، ولم يضيعوها بالشهوات، ولا هم في علمهم من أهل الخوض الخراصين الذين هم في غمرة ساهون، ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون، أضاء لهم نور الوحي المبين، فرأوا في نوره أهل الظلمات في ظلمات آرائهم يعمهون، وفي ضلالتهم يتهوّكون، وفي ريبهم يترددون، مغترين بظاهر السراب، مُمْحِلين مجدبين مما بعث الله تعالى به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الحكمة وفصل الخطاب، إِنْ عندهم إلَّا نُخَالة الأفكار، وزُبالة (١) الأذهان، التي قد رَضُوا بها، واطمأنوا إليها، وقدَّموها على السنة والقرآن، إن في حدورهم إلَّا كبر ما هم ببالغيه، أوجبه لهم اتباعُ الهوى ونخوة الشيطان، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان.
[القسم الثاني]: أهل الجهل والظلم الذين جَمَعوا بين الجهل بما جاء به، والظلم باتباع أهوائهم، الذين قال الله تعالى فيهم:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}[النجم: ٢٣]، وهؤلاء قسمان:
(أحدهما): الذين يحسبون أنهم على علم وهدي، وهم أهل الجهل والضلال، فهؤلاء أهلُ الجهلِ المركب الذين يَجهلون الحقّ، ويعادونه، ويعادون أهله، وينصرون الباطل، ويوالون أهله، وهم يحسبون أنهم على شيء، إلا إنهم هم الكاذبون، فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه، بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لَمْ يجده شيئًا، وهكذا هؤلاء أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب، الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه، ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان، كما هو حال من أَمَّ السراب، فلم يجده ماء، بل انضاف إلى ذلك أنه وَجَد عنده أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، فحسب له ما عنده من العلم والعمل، فوفاه إياه بمثاقيل الدرّ، وقَدِم إلى ما عَمِل من عمل يرجو نفعه، فجعله هباءً منثورًا؛ إذ لَمْ يكن
(١) بضم الزاي، يقال: ما في البئر زُبالة: أي شيء، قاله في "ق".