وقال في "الفتح": استُدِلّ بهذا الحديث على جواز خلو الزمان عن مجتهد، وهو قول الجمهور، خلافًا لأكثر الحنابلة وبعضٍ من غيرهم؛ لأنه صريح في رَفْع العلم بقبض العلماء، وفي ترئيس أهل الجهل، ومن لازِمه الحكم بالجهل، وإذا انتفى العلم، ومن يحكم به استلزم انتفاء الاجتهاد، والمجتهد.
وعورض هذا بحديث:"لا تزال طائفة من أمتي، ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله"، وفي لفظ:"حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله"، وفي رواية مسلم:"ظاهرين على الحقّ حتى يأتي أمر الله"، ولم يشك وهو المعتمَد.
وأجيب أوّلًا بأنه ظاهر في عدم الخلوّ، لا في نفي الجواز، وثانيًا بأن الدليل للأول أظهر؛ للتصريح بقبض العلم تارةً، وبرفعه أخرى، بخلاف الثاني، وعلى تقدير التعارض فيبقى أن الأصل عدم المانع.
قالوا: الاجتهاد فرض كفاية، فيستلزم انتفاؤه الاتفاق على الباطل.
وأجيب بأن بقاء فرض الكفاية مشروط ببقاء العلماء، فأما إذا قام الدليل على انقراض العلماء فلا؛ لأن بفقدهم تنتفي القدرة، والتمكن من الاجتهاد، وإذا انتفى أن يكون مقدورًا لم يقع التكليف به، هكذا اقتصر عليه جماعة.
قال: وقد تقدم -يعني: عند البخاريّ- في "باب تغيّر الزمان حتى تُعبد الأوثان"، في أواخر "كتاب الفتن" ما يشير إلى أن محل وجود ذلك عند فَقْد المسلمين بهبوب الريح التي تَهُبّ بعد نزول عيسى عليه السلام، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا قبضته، ويبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، وهو بمعناه عند مسلم، كما بيّنته هناك، فلا يَرِدُ اتفاق المسلمين على تَرْك فرض الكفاية، والعمل بالجهل؛ لعدم وجودهم، وهو المعبَّر عنه بقوله:"حتى يأتي أمر الله"، وأما الرواية بلفظ:"حتى تقوم الساعة" فهي محمولة على إشرافها بوجود آخر أشراطها، ويؤيده ما أخرجه أحمد، وصححه الحاكم، عن