حضور أجَلي مسلمًا، وليس مراده استعجال الموت، وبتقدير حَمْلها على الدعاء بالموت، فقد اختَلَف أهل الأصول في أن شرع من قبلنا، هل هو شرع لنا أم لا؟ وبتقدير أن يكون شرعًا لنا، فشَرْطه أن لا يَرِد في شرعنا ما ينسخه، وقد وَرَدَ في شرعنا نَسْخه في هذا الحديث.
[فإن قلت]: فقد دعا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالموت حيث قال في آخر مرض موته:"اللَّهُمَّ اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى"، وقد أورده البخاريّ في "صحيحه" في "باب تمني المريض الموت".
[قلت]: ليس هذا دعاء بالموت، وإنما هو رِضًى به عند مجيئه، فإن الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - لا يُقبَضُون عند انتهاء آجالهم حتى يُخَيَّروا؛ إكرامًا لهم، وتعظيمًا لشأنهم، ولن يختاروا لأنفسهم إلا ما يختاره الله لهم، فلما خُيّر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عند انتهاء أجله اختار ما اختاره الله له، ورضي بالموت، وأحبه، وطلبه بعد التخيير، لا ابتداء، وقد قال في الحديث:"ولا يَدْع به من قبل أن يأتيه"، وذلك يقتضي أنه لا كراهة في طلبه عند تحقق مجيئه؛ لِمَا في ذلك من إظهار الرضا بقضاء الله تعالى، والاستبشار بما يَرِد من عنده، ولكن الآحاد لا سبيل إلى تحقيق هذا، وأن يخيَّروا على لسان ملَك مشافهةً صريحةً، وغاية ما يقع للواحد منهم منام، أو خاطر صحيح، لا يَصِل به إلى القطع به، ولو استَبْشَر عند ذلك بقلبه؛ لِمَا يَرِد عليه من أمر الله لكان حسنًا، والله تعالى أعلم (١).
[فإن قلت]: إذا منعتم أن يكون للآحاد طريق إلى تحقيق هذا، وحسمتم الباب فيه، فما معنى هذا التقييد في قوله:"من قبل أن يأتيه"؟.
[قلت]: فيه وجهان:
أحدهما: أنه أشار بذلك إلى حالة نزول الموت، فإنه ينبغي للعبد أن تكون حاله فيها حال المتمني للموت الداعي به، راضيًا به مطمئن القلب إلى ما ورد عليه من أمر الله تعالى، غير جازع، ولا قَلِقٍ.
ثانيهما: أنه أشار بقوله: "من قبل أن يأتيه" إلى أن في الدعاء بالموت قبل حلوله نوع اعتراض، ومراغمة للمقدور المحتوم.