للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قال: وأما معنى "أتسخر بي؟ " هنا ففيه أقوال:

[أحدها]: قاله المازريّ: إنه خرج على المقابلة الموجودة في معنى الحديث، دون لفظه؛ لأنه عاهد الله مرارًا أن لا يسأله غير ما سأل، ثم غَدَرَ، فَحَلّ غدره محل الاستهزاء والسخرية، فقدّر الرجل أن قول الله تعالى له: "ادخل الجنة"، وتردده إليها، وتخييل كونها مملوءة ضرب من الإطماع له، والسخرية به؛ جزاءً لِمَا تقدم من غدره، وعقوبةً له، فسَمَّى الجزاءَ على السخرية سخرية، فقال: أتسخر بي؟ أي: تعاقبني بالإطماع؟.

[والقول الثاني]: قاله أبو بكر الصوفي: إن معناه نفي السخرية التي لا تجوز على الله تعالى، كأنه قال: أَعْلَم أنك لا تهزأ بي؛ لأنك رب العالمين، وما أعطيتني من جزيل العطاء، وأضعاف مثل الدنيا حقّ، ولكن العجب أنك أعطيتني هذا، وأنا غير أهل له، قال: والهمزة في "أتسخر بي" همزة نفي، كما في قوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ} [الأعراف: ١٥٥] على أحد الأقوال، قال: وهو كلامُ مُتَدَلِّلٍ عَلِمَ مكانه من ربه، وبَسْطَهُ له بالإعطاء.

[والقول الثالث]: قاله القاضي عياض: أن يكون هذا الكلام صَدَرَ من هذا الرجل، وهو غير ضابط لما قاله؛ لِمَا ناله من السرور ببلوغ ما لم يَخْطُر بباله، فلم يضبط لسانه دَهَشًا وفَرَحًا، فقال، وهو لا يعتقد حقيقةَ معناه، وجرى على عادته في الدنيا في مخاطبة المخلوق، وهذا كما قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الرجل الآخر: إنه لم يَضبِط نفسه من الفرح، فقال: "أنت عبدي، وأنا ربك" (١).

وقال القرطبيّ في "المفهم": أكثروا في تأويله، وأشبه ما قيل فيه: إنه استَخَفَّه الفرَح، وأدهشه، فقال ذلك، وقيل: قال ذلك؛ لكونه خاف أن يُجَازَى على ما كان منه في الدنيا من التساهل في الطاعات، وارتكاب المعاصي، كفعل الساخرين، فكأنه قال: أتجازيني على ما كان مني؟، فهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: ٧٩]، وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: ١٥]: أي يُنْزل بهم جزاء سخريتهم واستهزائهم. انتهى (٢).


(١) "شرح مسلم" ٣/ ٤٠.
(٢) "المفهم" ٤٢٤ - ٤٢٥.