وأما الأحاديث عن الصحابة التي تمسك بها المخالف، فلا يصح منها شيء، على ما قال عبد الله بن المبارك، وأحمد، وغيرهم، وعلى تقدير ثبوت شيء منها، فهو محمول على نقيع الزبيب، أو التمر من قبل أن يدخل حد الإسكار؛ جمعًا بين الأحاديث.
قال الحافظ: ويؤيده ثبوت مثل ذلك عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، كما في حديث سهل بن سعد الساعديّ أن أبا أسيد الساعديّ دعا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لعُرسه، فأنقعت امرأته له تمرات من الليل في تور، فسقته منه، ولا فرق في الحل بينه وبين عصير العنب، أول ما يعصر، وإنما الخلاف فيما اشتدّ منهما، هل يفترق الحكم فيه أو لا، وقد ذهب بعض الشافعية إلى موافقة الكوفيين، في دعواهم أن اسم الخمر خاص بما يُتخذ من العنب، مع مخالفتهم له في تفرقتهم في الحكم، وقولهم بتحريم قليل ما أسكر كثيره من كل شراب، فقال الرافعي: ذهب أكثر الشافعية إلى أن الخمر حقيقة فيما يُتخذ من العنب، مجاز في غيره، وخالفه ابن الرفعة، فنقل عن المزني، وابن أبى هريرة، وأكثر الأصحاب: أن الجميع يسمى خمرًا حقيقة، قال: وممن نقله عن أكثر الأصحاب القاضيان: أبو الطيب، والروياني، وأشار ابن الرفعة إلى أن النقل الذي عزاه الرافعي للأكثر لم يجد نقله عن الأكثر، إلا في كلام الرافعي، ولم يتعقبه النووي في "الروضة"، لكن كلامه في "شرح مسلم" يوافقه، وفي "تهذيب الأسماء" يخالفه، وقد نقل ابن المنذر، عن الشافعي، ما يوافق ما نقلوا عن المزني، فقال: قال: إن الخمر من العنب، ومن غير العنب عمر، وعلي، وسعيد، وابن عمر، وأبو موسى، وأبو هريرة، وابن عباس، وعائشة، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وعروة، والحسن، وسعيد بن جبير، وآخرون، وهو قول مالك، والأوزاعي، والثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وعامة أهل الحديث.
ويمكن الجمع بأن من أطلق على غير المتخذ من العنب حقيقة، يكون أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية، وقد أجاب بهذا ابن عبد البر، وقال: إن الحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي، دون اللغوي، والله أعلم.