الزهريّ، وكذا ذكره أبو داود، من وجهين آخرين، عن عثمان - رضي الله عنه -، واتفقت الروايات على تقديم المضمضة على الاستنشاق. انتهى (١).
(ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) وهذا التثليث أيضًا مستحبّ، وفيه تأخير غسل الوجه عن المضمضة والاستنشاق، وقد ذَكَرُوا أن حكمة ذلك باعتبار أوصاف الماء؛ لأن اللون يُدْرَك بالبصر، والطعم يدرك بالفم، والريح يدرك بالأنف، فقدمت المضمضة والاستنشاق، وهما مسنونان قبل الوجه؛ لاختبار حال الماء قبل فعل الفرض به، أفاده القاضي عياض رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وهما مسنونتان" الراجح أن المضمضة والاستنشاق في الوضوء واجبتان؛ لأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يترك واحدًا منهما في وُضوئه، فكل من وصف وضوءه - صلى الله عليه وسلم - وصفه بهما، وفعلُهُ بيانٌ لِمُجْمَل الآية، والآية بصيغة الأمر {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}[المائدة: ٦]، وكذلك النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بهما. وسيأتي تمام البحث في ذلك قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
(ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ) تعبيره بـ "ثُمّ" يدلّ على تقديم اليمنى على اليسرى، وكذا القول في الرجلين أيضًا (الْيُمْنَى) مؤنّث اليمين، ضدّ اليسار، وأنّثه؛ لأن اليد مؤنّثةٌ (إِلَى الْمِرْفَقِ) - بفتح الميم، وكسر الفاء، وعكسه، لغتان - وهو مَوْصِلُ الذراع بالعضد (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أي غسلًا ثلاث مرّات (ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى) تأنيث اليسار، أنّثه؛ لما مرّ (مِثْلَ ذَلِكَ) أي ثلاث مرّات، ولا خلاف في وجوب غسل اليدين؛ للنّصّ، والجمهور على وجوب غسل المرفقين، وخالف في ذلك زفر من الحنفيّة، وداود الظاهريّ. وسيأتي ترجيح مذهب الجمهور في وجوب دخولهما في الغسل - إن شاء الله تعالى - (ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ) وفي رواية البخاريّ: "برأسه"، قال القرطبيّ رحمه الله: الباء للتعدية يجوز حذفها وإثباتها، وقال في "الفتح": دخلت الباء لتفيد معنى آخر، وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولًا به، والمسح لغةً لا يقتضي ممسوحًا به، فلو قال:"وامسحوا رؤوسكم"