للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ظاهر القراءة الثانية إلى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده.

ومن اعتقد أن دلالة كل واحدة من القراءتين على ظاهرها على السواء، وأنه ليست إحداهما على ظاهرها أدَلَّ من الثانية على ظاهرها أيضًا جَعَل ذلك من الواجب المخيَّر، ككفارة اليمين وغير ذلك، وبه قال الطبريّ وداود.

وللجمهور تأويلات في قراءة الخفض، أجودها أن ذلك عطف على اللفظ، لا على المعنى؛ إذ كان ذلك موجودًا في كلام العرب، مثل قول زهير [من الكامل]:

لَعِبَ الزَّمَانُ بِهَا وَغَيَّرَهَا … بَعْدِي سَوَافِي الْمُورِ (١) وَالْقَطْرِ

بالخفض، ولو عُطِف على المعنى لرفع "القطرُ"، ولكنه جرّه بالجوار لِلْمُوْر.

وأما الفريق الثاني، وهم الذين أوجبوا المسح، فإنهم تأولوا قراءة النصب على أنها عطف على الموضع، كما قال الشاعر [من الوافر]:

فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا

وقد رَجَّح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ قال في قوم لم يَستوفُوا غسل أقدامهم في الوضوء: "ويل للأعقاب من النار"، متّفقٌ عليه، قالوا: فهذا يدلّ على أن الغسل هو الفرض؛ لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب. انتهى كلام ابن رُشد رحمه الله (٢).

وقال الحافظ أبو عمر رحمه الله في "الاستذكار" عند شرح حديث: "ويلٌ للأعقاب من النار": وفيه من الفقه غسل الرجلين، وفي ذلك تفسير لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: ٦]، فرُويت بخفض {وَأَرْجُلِكُمْ}، ونصبها، وفي هذا الحديث دليل على أن المراد بذلك غسل الأرجل، لا مسحها؛ لأن المسح ليس شأنه استيعاب الممسوح، فدلّ على أن من جرّ الأرجل عطفها على اللفظ، لا على المعنى، والمعنى فيهما الغسل، على التقديم والتأخير، كأنه قال: فاغسلوا وجوهكم، وأيديكم إلى المرافق،


(١) "السوافي": جمع سافية، وهي الريح الشديدة، و"المور" بالضمّ: التراب.
(٢) "بداية المجتهد" ١/ ١٥ - ١٦.