للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برؤوسكم، والقراءتان صحيحتان مستفيضتان، ومعلوم أن الغسل مخالف للمسح، وغير جائز أن تَبطُل إحدى القراءتين بالأخرى، فلم يبق إلا أن يكون المعنى الغسل، أو العطف على اللفظ، وكذلك قال أشهب عن مالك أنه سئل عن قراءة من قرأ {وَأَرْجُلِكُمْ} بالخفض، فقال: هو الغسل، وهذا التأويل تعضده سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجمع عليها بأنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرّة، ومرّتين، وثلاثًا، وجاء أمره في ذلك موافقًا لفعله، فقال: "ويلٌ للعراقيب من النار"، و"ويلٌ للعراقيب، وبطون الأقدام من النار".

قال: وقد وجدنا العرب تَخفِض بالجوار، والإتباع على اللفظ، بخلاف المعنى، والمراد عندها المعنى، كما قال امرؤ القيس [من الطويل]:

كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ (١)

فخفض بالجوار، وإنما المزَمَّل الرجلُ، والإعراب فيه الرفع، وكذلك قوله أيضًا [من الطويل]:

صَفِيفَ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ (٢)

وكما قال زهير [من الكامل]:

لَعِبَ الزَّمَانُ بِهَا وَغَيَّرَهَا … بَعْدِي سَوَافِي الْمُورِ (٣) وَالْقَطْرِ

قال أبو حاتم: كان الوجه "والقَطْرُ" بالرفع، ولكنه جرّه بالجوار لـ"الْمُوْر"، كما قالت العرب: "هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ"، ومن هذه قراءة أبي عمرو: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن: ٣٥] بالجرّ؛ لأن النحاس هو الدخان، وقراءة يحيى بن وَثَّاب: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} بالخفض، ومن هذا أيضًا قول النابغة [من البسيط]:


(١) صدره: كَأَن ثَبِيرًا فِي عَرَانِينِ وَبْلِهِ.
"ثبير": اسم جبل، و"العرانين" جمع عِرْنين بكسر، فسكون، وهو الأنف، أو معظمه، و"الوبل": المطر الشديد، وأراد بعرانين الوبل: أوائل المطر الغزير، و"البجاد": كساء مخطّط، و"مزَمّل": متلفّف.
(٢) صدره: فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ.
و"الصفيف": المصفوف، و"القدير": اللحم المطبوخ في القِدرِ.
(٣) "السوافي": جمع سافية، وهي الريح الشديدة، و"المور" بالضمّ: التراب.