قالوا: فالفطرة الخلقة، والفاطر الخالق، وأنكروا أن يكون المولود يُفْطَر على كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار، قالوا: وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلقةً، وطبعًا، وبنيةً، ليس معها إيمان ولا كفر، ولا إنكار ولا معرفة، ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا.
واحتجُّوا بقوله في الحديث:"كما تُنْتَج البهيمة بهيمةً جمعاء - يعني سالمة - هل تحسون فيها من جدعاء؟ "، يعني مقطوعة الأذن، فَمَثَّل قلوب بني آدم بالبهائم؛ لأنها تولد كاملة الخلق، ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعدُ، وأنوفها، فيقال: هذه بَحائر، وهذه سوائب، يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم، ليس لهم كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، كالبهائم السائمة، فلما بَلَغُوا استهوتهم الشياطين، فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلَّهم، قالوا: ولو كان الأطفال قد فُطِروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمورهم، ما انتقلوا عنه أبدًا، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون، قالوا: ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرًا أو إيمانًا؛ لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئًا، قال الله تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} الآية [النحل: ٧٨]، فمن لا يعلم شيئًا استحال منه كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار.
قال أبو عمر بن عبد البر رَحِمَهُ اللهُ: هذا أصحّ ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها.
ومن الحجة أيضًا في هذا قوله تعالى:{إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[الطور: ١٦]، و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨)} [المدثّر: ٣٨]، ومن لم يبلغ وقت العمل لم يُرْتَهَن بشيء، وقال:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء: ١٥]، ولَمّا أجمعوا على دفع القَوَد والقصاص، والحدود، والآثام عنهم في دار الدنيا، كانت الآخرة أولى بذلك، والله تعالى أعلم.
ويستحيل أن تكون الفطرة المذكورة الإسلامَ، كما قال ابن شهاب؛ لأن الإسلام والإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل ذلك ذو عقل.