للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وأما قول الأوزاعيّ: سألت الزهريّ عن رجل عليه رقبة، أيجزي عنه الصبيّ أن يُعْتِقه وهو رضيع؟ قال: نعم؛ لأنه وُلد على الفطرة، يعني الإسلام، فإنما أجزأ عتقه عند من أجازه؛ لأن حكمه حكم أبويه، وخالفهم آخرون، فقالوا: لا يجزي في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلى.

وليس في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨)} [المدثر: ٣٨]، ولا في أن يَختم الله للعبد بما قضاه له، وقدَّره عليه دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنًا أو كافرًا؛ لِمَا شَهِدت له العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يَعقِل إيمانًا ولا كفرًا.

والحديث الذي جاء فيه أن الناس خُلِقوا على طبقات ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها؛ لأنه انفرد به عليّ بن زيد بن جُدْعان، وقد كان شعبة يتكلم فيه، على أنه يَحْتَمِل قوله: "يولد مؤمنًا"، أي يولد ليكون مؤمنًا، ويولد ليكون كافرًا على سابق علم الله فيه، وليس في قوله في الحديث: "خَلَقتُ هؤلاء للجنة، وخلقت هؤلاء للنار" أكثر من مراعاة ما يُختَم به لهم، لا أنهم في حين طفولتهم ممن يَستحقّ جنةً أو نارًا، أو يعقل كفرًا أو إيمانًا.

قال القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ: وإلى ما اختاره أبو عمر، واحتجّ له ذهب غير واحد من المحققين، منهم ابن عطية في "تفسيره" في معنى الفطرة، وشيخنا أبو العباس (١). قال ابن عطية: والذي يُعْتَمَد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة، والهيئة التي في نفس الطفل التي هي مُعَدَّةٌ، ومُهَيَّأَةٌ لأن يُمَيّز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدلّ بها على ربه، ويعرف شرائعه، ويؤمن به، فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فَطَرَ البشر، لكن تَعرِضهم العوارض، ومنه قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه"، فذِكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة.

وقال شيخنا (٢) في عبارته: إن الله تعالى خَلَق قلوب بني آدم مُؤَهَّلَةً لقبول


(١) هو صاحب "المفهم".
(٢) يعني به أبا العباس القرطبيّ، صاحب "المفهم" رَحِمَهُ اللهُ.