للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وأما الوجه المتأخّر فمتأخّر؛ لما بيّنّا أنا لو خصّصناه ببعض أحواله لكان الخارج عن تلك الأحوال مخصوصًا عن العموم مع دلالة العموم على تناوله، ووجوب المحافظة عليها. انتهى كلام ابن دقيق العيد - رحمه الله تعالى - (١) وهو بحثٌ نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال خاصّ بالمال عامّ بالنسبة إلى ما يَلَغ فيه الكلب، وما لم يَلَغ فيه، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بإراقة ما ولغ فيه الكلب خاصّ بالنسبة إلى ما لم يَلَغ فيه، عامّ بالنسبة إلى المال وغير المال، فكلّ واحد منهما عامّ من وجه، خاصّ من وجه.

فلئن قال أحد الخصمين: أَخُصّ عموم الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب بالماء؛ عملًا بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال، قال خصمه: أَخُصّ نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال بما لم يلغ فيه الكلب؛ عملًا بقوله: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليُرقه"، فإذا تقابلا فلا بدّ من الترجيح، وقد يُرجّح العمل بهذا الحديث؛ لوجهين:

أحدهما: أن يقال: النهي عن إضاعة المال عاتم مخصوص بالاتّفاق، فإنه يُخرج عنه المائعات التي تغلو قيمتها، وتكثر بعد وقوع قطرة من البول فيها، والعموم في هذا الحديث غير مخصوص بالإجماع - أي حيث لم يُجْمَع على تخصيصه - فإن القائل بالنجاسة يعمّ به كلّ ما يُولَغُ فيه، والعمل بالعموم الذي لم يُجمَع على تخصيصه أولى من العمل بالعموم الذي أُجمع على تخصيصه.

فإن قال: لا أسلِّم أن المائع الذي وقعت فيه قطرة البول مالٌ بعد وقوعها فيه، قال خصمه: لا أسلِّم أن الطعام مال بعد ولوغ الكلب فيه.

الوجه الثاني: أن يقال: مقصود ذلك الحديث النهي عن التبذير، وإضاعة المال من غير غرض صحيح، والمقصود من هذا الحديث إما الإبعاد، وإما التنزّه عما لحقه سؤر الكلب؛ لنجاسته، أو لقذره، وهذا المقصود أخصّ بالنسبة إلى ما يقع فيه الولوغ من ذلك المقصود - أي النهي عن إضاعة المال -


(١) "شرح الإلمام" ٢/ ٢٢٥ - ٢٢٧.