للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

والشافعيّ، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أئمة السلف أن أول الواجبات على المكلّف الإيمان التصديقيّ الْجَزميّ الذي لا ريب معه بالله تعالى، ورسله، وكتبه، وما جاءت به الرسل على ما تقرّر في حديث جبريل عليه السلام، كيفما حصل ذلك الإيمان، وبأيّ طريق إليه تُوُصّل، وأما النطق باللسان فمُظهر لِمَا استقرّ في القلب من إيمان، وسببٌ ظاهرٌ تترتّب عليه أحكام الإسلام.

قال: وقد احتجّ بهذا الحديث من قال: إن الكفّار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة، وهو أحد القولين لأصحابنا - يعني المالكيّة - وغيرهم من حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - إنما خاطبهم بالتوحيد أوّلًا، فلمّا التزموا ذلك خاطبهم بالفروع التي هي الصلاة، والزكاة، وهذا لا حجة فيه؛ لوجهين:

[أحدهما]: أنه لم يَنُصّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على أنه إنما قَدَّم الخطاب بالتوحيد لما ذكروه، بل يَحتمل ذلك، ويَحتَمِل أن يقال: إنه إنما قدَّمه لكون الإيمان شرطًا مُصحّحًا للأعمال الفروعيّة، لا للخطاب بالفروع؛ إذ لا يصحّ فعلها شرعًا إلا بتقدّم وجوده، ويصحّ الخطاب بالإيمان وبالفروع معًا في وقت واحد، وإن كانت في الوجود متعاقبةً، وهذا الاحتمال أظهر مما تمسّكوا به، ولو لم يكن أظهر فهو مساوٍ له، فيكون ذلك الخطاب مُجملًا بالنسبة إلى هذا الحكم.

[وثانيهما]: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنما رَتَّب هذه المَواعد ليبيّن الأوكدَ، فالأوكدَ، والأهمَّ، فالأهمَّ، كما بيّنّاه في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - المتقدّم.

واقتصار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ذكر القواعد الثلاث؛ لأنها كانت هي المتعيّنة عليهم في ذلك الوقت المتأكّد فيه، ولا يُظَنُّ أن الصوم والحجَّ لم يكونا فُرِضَا إذ ذاك؛ لأن إرسال معاذ - رضي الله عنه - إلى اليمن كان في سنة تسع (١)، وقد كان فُرِضَ الحجّ، وأما الصوم ففُرضَ في السنة الثانية من الهجرة، مات النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ومعاذ باليمن على الصحيح.

وقول من قال: إن الرواة سكتوا عن ذكر الصوم والحجّ، قول فاسد؛ لأن الحديث قد اشتَهَرَ، واعتَنَى به الناسُ سلفًا وخَلَفًا، فلو ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له شيئًا من ذلك لنُقِلَ. انتهى (٢).


(١) تقدّم القول أيضًا بأنه كان سنة عشر.
(٢) "المفهم" ١/ ١٨٢ - ١٨٣.