ثم في هذا القياس شيء آخر، وهو أن الأصل الذي هو الوضوء قد أُلغي فيه مساواة البدل له، فإن التيمّم لا يعمّ جميع أعضاء الوضوء، وصار مساواة البدل للأصل مُلْغًى في محلّ النصّ، وذلك لا يقتضي المساواة في الفرع.
بل لقائل أن يقول: قد يكون الحديث دليلًا على صحّة أصل القياس، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما كان يكفيك كذا وكذا" يدلّ على أنه لو كان فَعَلَهُ لكفاه، وذلك دليلٌ على صحّة قولنا: لو كان فعله لكان مصيبًا، ولو كان فَعَلَه لكان قائسًا للتيمّم للجنابة على التيمّم للوضوء، على تقدير أن يكون اللمس المذكور في الآية ليس هو الجماعَ؛ لأنه لو كان عند عمّار هو الجماعَ لكان حكم التيمّم مبيّنًا في الآية، فلم يكن يحتاج إلى أن يتمرّغ، فإذن فعله ذلك يتضمّن اعتقاد كونه ليس عاملًا بالنصّ؛ بل بالقياس، وحكم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان يكفيه التيمّم على الصورة المذكورة، مع ما بيّنّا من كونه لو فَعَل ذلك لفعله بالقياس عنده لا بالنصّ. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه اللهُ (١).
وكتب الصنعانيّ رحمه اللهُ على قوله:"فإذن فعله ذلك … إلخ"، ما نصّه: أقول: تمرّغه قد يتضمّن أنه فعله اعتمادًا على القياس؛ إذ لو عَمِل بالنصّ لما جاز أعضاء التيمّم؛ لأن النصّ قد بيّن كمّيّة الأعضاء التي تُطهَّر بالتراب في جنابة ووضوء، فلمّا تمرّغ دلّ على أنه قاس الجنابة على الحدث الأصغر في أنه يرفعها التراب كما يرفعه، وألحق التراب بالماء في عموم البدل، فأقرّ - صلى الله عليه وسلم - القياس الأول، ونفى الثاني.
ويَحْتَمِل أنه قد عَلِم الحكم، وهو أن التراب يرفع الجنابة من الآية، وحَمَل الملامسة على الجماع، وحَمَل قوله:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}[المائدة: ٦] على أنه بيان لكمّيّة الأعضاء في تيمّم الوضوء وكيفيّته، وأنه أُحيل بيان كيفيّته وكمّيّته عن الجنابة على القياس على الماء، فَعَمَّ بالتمرّغ البدن قياسًا للتراب على الماء بجامع أنه يطهّر مثله، فأبطل - صلى الله عليه وسلم - هذا القياس، وأبان له أن الحكم في ذلك في الوضوء والغسل واحدٌ، وأن النصّ قد شَمِلَ الأمرين، وأنه أخطأ في القياس مع وجود النصّ، وعلى كلّ تقدير لم تتمّ لأبي محمد الحجة