أولى، فقال بانيًا على صحة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابيّ: إن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - سمعه فوق سبع سماوات، وهو أقوى من الوحي، فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة، وأراد إعلامهم بالوقت، فرأى الصحابيّ المنام فقصّها، فوافقت ما كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - سمعه، فقال:"إنها لرؤيا حقّ"، وعَلِم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنةً في الأرض، وتَقَوَّى ذلك بموافقة عمر؛ لأن السكينة تنطق على لسانه، والحكمةُ أيضًا في إعلام الناس به على غير لسانه - صلى الله عليه وسلم - التنويه بقدره، والرفع لذكره بلسان غيره؛ ليكون أقوى لأمره، وأفخم لشأنه. انتهى ملخصًا.
قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الحافظ - رَحِمَهُ اللهُ - في ردّه على القرطبيّ والسهيليّ هذه التكلّفات والتعسّفات؛ إذ هي تعب لا ينبني عليه أرب؛ إذ الجمع بين النصوص المختلفة إنما هو فرع عن صحّتها، فأما إذا كانت واهية كالأحاديث المذكورة هنا، فلا داعي إلى التكلّف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: ومما كَثُر السؤال عنه، هل باشر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الأذان بنفسه؟ وقد وقع عند السهيليّ أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أَذَّن في سفر، وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم، السماء من فوقهم، والبِلّة من أسفلهم، أخرجه الترمذيّ من طريق تدور على عمر بن الرّمَاح، يرفعه إلى أبي هريرة. انتهى.
قال الحافظ - رَحِمَهُ اللهُ -: وليس هو من حديث أبي هريرة، وإنما هو من حديث يعلى بن مرّة، وكذا جزم النوويّ بأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أذَّن مرة في السفر، وعزاه للترمذيّ، وقوّاه، ولكن وجدناه في "مسند أحمد" من الوجه الذي أخرجه الترمذيّ، ولفظه:"فأمر بلالًا، فأذّن"، فعُرف أن في رواية الترمذيّ اختصارًا، وأن معنى قوله:"أَذَّن" أمر بلالًا به، كما يقال: أعطى الخليفةُ العالم الفلانيّ ألفًا، وإنما باشر العطاء غيره، ونُسب للخليفة؛ لكونه آمرًا به.
قال: ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان: ما رواه أبو الشيخ بسند فيه مجهول، عن عبد الله بن الزبير، قال:"أُخِذ الأذانُ من أذان إبراهيم، {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} الآية [الحج: ٢٧]، قال: فأذّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وما رواه أبو نعيم في "الحلية" بسند فيه مجاهيل: "إن جبريل نادى بالأذان لآدم حين أُهبط من الجنة". انتهى.