بقي أن الحديث يوجب قراءة الفاتحة في تمام الصلاة، لا في كل ركعة، لكن إذا ضُمّ إليه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وافْعَلْ في حلاتك كلها" للأعرابي المسيء صلاته، يَلزَم افتراضها في كل ركعة، ولذلك عَقَّب هذا الحديث بحديث الأعرابي في "صحيح البخاريّ"، فلله دره ما أدَقّه -وكذلك مسلم هنا حيث أتى به في هذا الباب-، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١).
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي حقّقه العلامة السنديّ الحنفيّ: من بطلان صلاة من لَمْ يقرأ بفاتحة الكتاب فيها؛ عملًا بالأحاديث الصحيحة المذكورة في هذا الباب وغيره، تحقيقٌ نفيس جدًّا، وهو يدلّ على إنصافه، وبُعده عن التعصّب المذهبيّ الذي يُغطّي كثيرًا من الحقّ، وهذا أمر نادر عند المذهبيين، ولا سيّما الذين ينتسبون إلى مذهبه الحنفيّ، فإن هذه المسألة، وأشباهها قد زلّ فيها قدم كثير ممن يُظنّ فيهم البراعة، والتقدّم في المذهب، بل وفي سائر المعلوم، أمثال الطحاويّ من المتقدّمين، وأمثال العينيّ من المتأخّرين، فلا تغترّ بما يموّهون به في ردّ هذا النصّ الصريح:"لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب"، هداني اللَّه وإياك سبيل الصواب.
غير أن مما يُستدرك من كلام السنديّ قوله:"نعم يمكن أن يقال: قراءة الإمام قراءة المقتدي. . . إلخ"، فإنه غير مقبول؛ لأن الأحاديث الواردة التي أشار إليها غير ثابتة، فلا تصلح لتخصيص عموم هذا الحديث الصحيح:"لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب"، وعلى تقدير صحّتها تُحمَل على ما عدا الفاتحة؛ عملًا بالاستثناء المذكور في الحديث الصحيح:"فلا تفعلوا إلَّا بأم القرآن. . . "، وسيأتي تحقيقه -إن شاء اللَّه تعالى-.
وقال القاضي عياض: قيل: يُحْمَل على نفي الذات وصفاتها، لكن الذات غير منتفية، فيُخَصّ بدليل خارج، ونوزع في تسليم عدم نفي الذات على الإطلاق؛ لأنه إن ادَّعَى أن المراد بالصلاة معناها اللغويّ، فغير مسلَّم؛ لأن ألفاظ الشارع محمولة على عُرْفه؛ لأنه المحتاج إليه فيه؛ لكونه بُعِث لبيان الشرعيات، لا لبيان موضوعات اللغة، وإذا كان المنفيّ الصلاة الشرعية،