استقام دعوى نفي الذات، فعلى هذا لا يَحتاج إلى إضمار الإجزاء، ولا الكمال؛ لأنه يؤدي إلى الإجمال، كما نُقِل عن القاضي أبي بكر وغيره، حتى مال إلى التوقُّف؛ لأن نفي الكمال يُشْعِر بحصول الإجزاء، فلو قُدِّر الإجزاء منتفيًا لأجل العموم قُدِّر ثابتًا لأجل إشعار نفي الكمال بثبوته، فيتناقض، ولا سبيل إلى إضمارهما معًا؛ لأن الإضمار إنما احتيج إليه للضرورة، وهي مندفعة بإضمار فرد، فلا حاجة إلى أكثرَ منه، ودعوى إضمار أحدهما ليست بأولى من الآخر، قاله ابن دقيق العيد.
قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وفي هذا الأخير نظرٌ؛ لأنا إن سلمنا تعذّر الحمل على الحقيقة، فالحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة أولى من الحمل على أبعدهما، ونفي الإجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة، وهو السابق إلى الفهم، ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس، فيكون أولى. ويؤيده رواية الإسماعيليّ من طريق العباس بن الوليد النَّرْسيّ، أحد شيوخ البخاريّ عن سفيان بهذا الإسناد، بلفظ:"لا تُجزئ صلاةٌ لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب"، وتابعه على ذلك زياد بن أيوب، أحد الأثبات، أخرجه الدارقطنيّ، وله شاهد من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، مرفوعًا بهذا اللفظ، أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهما.
ولأحمد من طريق عبد اللَّه بن سَوَادة الْقُشَيريّ، عن رجل عن أبيه، مرفوعًا:"لا تُقْبَل صلاة لا يُقرَأ فيها بأم القرآن".
وقد أخرج ابن خزيمة، عن محمد بن الوليد القرشيّ، عن سفيان، حديث الباب بلفظ:"لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب"، فلا يمتنع أن يقال: إن قوله: "لا صلاة" نفي بمعنى النهي: أي لا تُصَلُّوا إلا بقراءة فاتحة الكتاب.
ونظيره ما رواه مسلم من طريق القاسم، عن عائشة، مرفوعًا:"لا صلاة بحضرة الطعام"، فإنه في صحيح ابن حبان بلفظ:"لا يُصَلِّي أحدكم بحضرة الطعام"، أخرجه مسلم من طريق حاتم بن إسماعيل وغيره، عن يعقوب بن مجاهد، عن ابن أبي عتيق (١)، وابن حبان، من طريق حسين بن عليّ وغيره،
(١) وقع في "الفتح" "عن القاسم"، وهو غلط؛ لأن مسلمًا ما أخرجه من طريق =