قال: وعندنا أنه إذا استُدلّ على عدم وجوب شيء بعد ذكره في الحديث، وجاءت صيغة الأمر به في حديث آخر، فالمقدّم صيغة الأمر، وإن كان يمكن أن يقال: الحديث دليلٌ على عدم الوجوب، وتُحْمَل صيغة الأمر على الندب، لكن عندنا أن ذلك أقوى؛ لأن عدم الوجوب متوقّف على مقدّمة أخرى، وهو أن عدم الذكر في الرواية يدلّ على عدم الذكر في نفس الأمر، وهذه غير المقدّمة التي قرّرناها، وهو أن عدم الذكر يدلّ على عدم الوجوب؛ لأن المراد ثَمّة أن عدم الذكر في نفس الأمر من الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يدلّ على عدم الوجوب، فإنه موضع بيان، وعدم الذكر في نفس الأمر غير عدم الذكر في الرواية، وعدم الذكر في الرواية إنما يدلّ على عدم الذكر في نفس الأمر بطريق أن يقال: لو كان لذُكِر، أو بأن الأصل عدمه، وهذه المقدّمة أضعف من دلالة الأمر على الوجوب.
وأيضًا فالحديث الذي فيه الأمر إثبات لزيادة، فيُعمل بها.
قال: وهذا البحث كلّه بناءٌ على إعمال صيغة الأمر في الوجوب الذي هو ظاهر فيها، والمخالف يُخرجها عن حقيقتها بدليل عدم الذكر، فيَحتاج الناظر المحقّق إلى الموازنة بين الظنّ المستفاد من عدم الذكر في الرواية، وبين الظنّ المستفاد من كون الصيغة للوجوب، والثاني عندنا أرجح.
[وثالثها]: أن يستمرّ على طريقة واحدة، ولا يستعمل في مكان ما يتركه في آخر، فيَتَثَعلب نظره، وأن يستعمل القوانين المعتبرة في ذلك استعمالًا واحدًا، فإنه قد يقع هذا الاختلاف في النظر في كلام كثير من المتناظرين. انتهى كلام ابن دقيق العيد -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١).
وقد علّق العلامة الشوكانيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- على قوله:"فالمقدّم صيغة الأمر إذا جاءت في حديث آخر"، فقال: وأما قوله: "إنها تقدّم صيغة الأمر إذا جاءت في حديث آخر"، واختياره لذلك من دون تفصيل، فنحن لا نوافقه، بل نقول: إذا جاءت صيغة أمرٍ قاضيةٌ بوجوب زائد على ما في هذا الحديث، فإن كانت متقدِّمةً على تاريخه كان صارفًا لها إلى الندب؛ لأن اقتصاره في التعليم على