قراءتها في ذلك السكوت، فيكون نفيه للذكر، وإخباره بافتتاح القراءة بها إنما هو في الجهر، وكما أن الإمساك عن الجهر مع الذكر سرًّا يسمى سكوتًا، كما في حديث أبي هريرة، فيصلح أن يقال: لم يقرأها، ولم يذكرها؛ أي جهرًا، فإن لفظ السكوت، ولفظ نفي الذكر والقراءة مدلولهما هنا واحد.
ويؤيد هذا حديث عبد اللَّه بن مغفل الذي في "السنن" أنه سمع ابنه جهر بها، فأنكر عليه، وقال: يا بُنَيّ إياك والْحَدَثَ، وذكر أنه صلى خلف النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم يكونوا يجهرون بها، فهذا مطابق لحديث أنس، وحديث عائشة اللذين في "الصحيح".
وأيضًا فمن المعلوم أن الجهر بها مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يجهر بها كالجهر بسائر الفاتحة، لم يكن في العادة، ولا في الشرع ترك نقل ذلك، بل لو انفرد بنقل مثل هذا الواحد والاثنان لقطع بكذبهما؛ إذ التواطؤ فيما تمنع العادة والشرع كتمانه، كالتواطؤ على الكذب فيه، ويُمَثَّل هذا بكذب دعوى الرافضة في النصّ على علي في الخلافة، وأمثال ذلك.
وقد اتَّفَق أهل المعرفة بالحديث على أنه ليس في الجهر بها حديث صريح، ولم يرو أهل السنن المشهورة؛ كأبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ شيئًا من ذلك، وإنما يوجد الجهر بها صريحًا في أحاديث موضوعة، يرويها الثعلبيّ، والماورديّ، وأمثالهما في التفسير، أو في بعض كتب الفقهاء الذين لا يُميزون بين الموضوع وغيره، بل يحتجون بمثل حديث الحميراء (١).
وأعجب من ذلك أن من أفاضل الفقهاء مَن لم يعز في كتابه حديثًا إلى البخاريّ إلا حديثًا في البسملة، وذلك الحديث ليس في البخاريّ، ومَن هذا
(١) لعله يشير إلى ما يُروى: "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء"، يريد عائشة، وهو مما لا يصحّ، قال الحافظ في "الفتح": لم أر في حديث صحيح ذكر الحميراء إلا في هذا الحديث. يعني حديث قصّة لعب الحبشة بحرابهم في المسجد، حيث قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعائشة -رضي اللَّه عنهما-: "يا حميراء، أتحبّين أن تنظري إليهم؟. . ." الحديث، راجع: "آداب الزفاف" للشيخ الألباني ص ٢٠٠.