للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

انقرض عصر الخلفاء الراشدين، وصار بعض الأئمة يجهر بها؛ كابن الزبير ونحوه، سأل بعض الناس بقايا الصحابة، كأنس، فرَوَى لهم أنس ترك الجهر بها، وأما مع وجود الخلفاء، فكانت السنة ظاهرةً مشهورةً، ولم يكن في الخلفاء مَن يجهر بها، فلم يُحتَج إلى السؤال عن الأمور العدمية حتى يُنقَل.

[الثالث]: أن نفي الجهر قد نُقِل نقلًا صحيحًا صريحًا في حديث أبي هريرة، والجهر بها لم يُنقل نقلًا صحيحًا صريحًا مع أن العادة والشرع يقتضي أن الأمور الوجودية أحقّ بالنقل الصحيح الصريح من الأمور العدمية.

وهذه الوجوه مَن تدبرها، وكان عالِمًا بالأدلة القطعية، قَطَع بأن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن يجهر بها، بل ومن لم يتدرَّب في معرفة الأدلة القطعية من غيرها يقول أيضًا: إذا كان الجهر بها ليس فيه حديث صحيحٌ صريحٌ، فكيف يمكن بعد هذا أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يجهر بها؟ ولم تنقل الأمة هذه السنة، بل أهملوها وضَيَّعُوها، وهل هذه إلا بمثابة أن يَنقُل ناقل أنه كان يجهر بالاستفتاح والاستعاذة؟ كما كان فيهم مَن يجهر بالبسملة.

ومع هذا فنحن نعلم بالاضطرار أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن يجهر بالاستفتاح والاستعاذة، كما كان يجهر بالفاتحة، كذلك نعلم بالاضطرار أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن يجهر بالبسملة، كما كان يجهر بالفاتحة، ولكن يمكن أنه كان يجهر بها أحيانًا، أو أنه كان يجهر بها قديمًا، ثم تَرَك ذلك، كما رَوَى أبو داود في "مراسيله" عن سعيد بن جبير، ورواه الطبرانيّ في "معجمه"، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يجهر بها بمكة، فكان المشركون إذا سمعوها سَبُّوا الرحمن، فترك الجهر فما جهر بها حتى مات، فهذا محتمل.

وأما الجهر العارض فمثل ما في "الصحيح" أنه كان يجهر بالآية أحيانًا، ومثل جهر بعض الصحابة خلفه بقوله: "ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه"، ومثل جهر عمر بقوله: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك"، ومثل جهر ابن عمر، وأبي هريرة بالاستعاذة، ومثل جهر ابن عباس بالقراءة على الجنازة؛ ليعلموا أنها سنة.

ويمكن أن يقال: جَهْرُ مَن جهر بها من الصحابة، كان على هذا الوجه؛ ليعرفوا أن قراءتها سنة، لا لأن الجهر بها سنة، ومن تدبر عامة الآثار الثابتة