الزمان، وتعدد الإسناد، لا تضبط الجزئيات في أفعال كثيرة متفرقة حقّ الضبط إلابنقل مفصَّل لا مجمل، وإلا فمن المعلوم أن مثل منصور بن المعتمر، وحماد بن أبي سليمان، والأعمش، وغيرهم أخذوا صلاتهم عن إبراهيم النخعيّ وذويه، وإبراهيم أخذها عن علقمة والأسود، ونحوهما، وهم أخذوها عن ابن مسعود، وابن مسعود عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا الإسناد أجلُّ رجالًا من ذلك الإسناد، وهؤلاء أخذ الصلاة عنهم أبو حنيفة، والثوريّ، وابن أبي ليلى، وأمثالهم من فقهاء الكوفة، فهل يجوز أن يُجعل نفس صلاة هؤلاء هي صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بهذا الإسناد حتى في موارد النزاع؟ فإن جاز هذا كان هؤلاء لا يجهرون، ولا يرفعون أيديهم إلا في تكبيرة الافتتاح، ويسفرون بالفجر، وأنواع ذلك مما عليه الكوفيون.
ونظير هذه احتجاجُ بعضهم على الجهر بأن أهل مكة، من أصحاب ابن جريج، كانوا يجهرون، وأنهم أخذوا صلاتهم عن ابن جريج، وهو أخذها عن عطاء، وعطاء، عن ابن الزبير، وابن الزبير، عن أبي بكر الصديق، وأبو بكر عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا ريب أن الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أول ما أخذ الفقه في هذه المسألة وغيرها عن أصحاب ابن جريج، كسعيد بن سالم القَدّاح، ومسلم بن خالد الزنجيّ، لكن مثل هذه الأسانيد المجملة لا يثبت بها أحكام مفصلة، تنازع الناس فيها.
ولئن جاز ذلك ليكوننّ مالك أرجح من هؤلاء، فإنه لا يستريب عاقل أن الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين كانوا بالمدينة أجلّ قدرًا، وأعلم بالسنة، وأتبع لها ممن كان بالكوفة ومكة والبصرة، وقد احتج أصحاب مالك على ترك الجهر بالعمل المستمرّ بالمدينة، فقالوا: هذا المحراب الذي كان يصلي فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم الأئمة، وهَلُمّ جَرًّا، ونقلهم لصلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نقلٌ متواترٌ كلهم شَهِدوا صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم صلاة خلفائه، وكانوا أشدّ محافظةً على السنة، وأشدّ إنكارًا على من خالفها من غيرهم، فيمتنع أن يغيروا صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا العمل يقترن به عمل الخلفاء كلهم من بني أمية، وبني العباس، فإنهم كلهم لم يكونوا يجهرون، وليس لجميع هؤلاء غرض بالإطباق على تغيير السنة في مثل هذا، ولا يمكن